حسم الأمر، إذن، وأعلن الرئيس سليمان فرنجية نفسه مرشحاً للرئاسة الثانية، عشية احتفاله (اليوم) بالذكرى الثامنة عشرة لانتخابه رئيساً للجمهورية في 17 آب 1970.
وبقدر ما كانت معركة سليمان فرنجية الأولى صعبة وقاسية حتى قرر نتيجتها صوت واحد، قيل يومها إنه “الصوت” السوفياتي فإن معركة “سليمان الثاني” تبدو أقسى وأصعب بما لا يقاس، يتحكم بها حتى هذه اللحظة “صوت” واحد هو الصوت الأميركي.
ومن خلال معركة 18 آب 1988 الرئاسية تتبلور صورة للبنان الحرب الأهلية توحي وكان حركة التاريخ قد توقفت فيه تماماً حتى ليتكرر كل شيء في حياته السياسية إلى ما لا نهاية.
لكأنما شكلت الحرب انقطاعاً للزمان، وأدخلتنا جميعاً الكهف لمدة ثلاث عشرة سنة أو يزيد، ثم جاء احتمال انتهائها يخرجنا منه فإذا نحن في “عالم جديد” ولكن بلغتنا وأشكالنا ومفاهيمنا القديمة إياها.
فاليوم وبعد كل المحاولات الجهيضة للتغيير والتعديل والتطوير في الصيغة أو في تطبيقات النظام وحصص الطوائف فيه، يبدو وكأن “جيل الحرس القديم” هو الذي انتصر فاستعاد اعتباره ودوره بل وتوجهت إليه أنظار “التغييرين” بوصفه المنقذ.
وليس من قبيل المصادفات إن المفترضين من أهل التغيير والمطالبة بالاصلاح قد عادوا فانضبطوا وانتظموا في صف حماة النظام والعاملين لاستمراره، متوسلين أن يحدث تعديل ما في الشكل ينقذ ماء وجوههم!.
لم يجرؤ واحد من “جيل الحرب”، في “المنطقة الشرقية”، أن يلوح ، مجرد تلويح، باحتمال أن يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية،
ولم يتمكن واحد من قيادات مطلب التغيير والتثوير ورفع الغبن والحرمان، في “المنطقة الغربية”، أن يفرض نفسه ناخباً كبيراً يحسب له حساب على مسار المعركة الضارية لإنهاء عهد الانقلاب الكتائبي وفتح الباب لعهد جديدز
بل إن “التغييريين” على الضفتين قد لووا ألسنتهم، الآن، وعادوا يشيدون بالصيغة “القديمة” ويضفون عليها “قداسة” لم تكن لها، ويشهدون لمبتدعيها بعبقرية لم يدعوها!
صار هؤلاء أنفسهم يتسقطون أخبار سليمان فرنجية وصائب سلام وكامل الأسعد وكاظم الخليل وتقي الدين الصلح، ناهيك بريمون اده، ويمضون الساعات الطوال في تحليل مواقفهم وتفسير ما تجهر به أو توحيه تصريحاتهم، لاسيما تلك التي يطلقونها في الصالونات والغرف المغلقة،
أما المراجع الروحية فقد اكتسبت مواقعها المزيد من الحصانة، ولم يعد من الجائز مناقشة حقهم المشروع في ممارسة العمل السياسي أو التدخل فيه.
ولكأنما يعاقب “الجيل الجديد” على حرب لم يعلنها ولم يقدها، أصلاً، بمعزل عن الادعاءات، وإنما وجد نفسه في غمارها فاضطر لأن يخوضها بما يرضي أحلامه أو أوهامه أو تطلعاته إلى “الغد الأفضل”.
وها هو محكوم، بعد كل الذي كان، في أن يعتبر أمسه هو الغد الأفضل.
وحين تقاتل الولايات المتحدة الأميركية سليمان فرنجية بسلاح “الفيتو” المعلن من قبل حكم “الانقلاب” الكتائبي. فهي إنما تزكي “الجيل القديم” وتعزز جدارته بأن يستمر حارساً للصيغة التي عجزت القوى المعارضة والمعترضة عن ابتداع ما هو أرقى للبنان عشية القرن الحادي والعشرين!
إن “الفيتو” الأميركي على ترشيح سليمان فرنجية، وبالتالي على انتخابه، قد أعطى لمعركة رئاسة الجمهورية طابعاً من التحدي والصدامية كان يمكن تجنبه حتى أيام قليلة… بل ربما ما زال بالإمكان تجاوزه في الساعات المقبلة.
فلا سليمان فرنجية، بتكوينه الشخصي واستعداداته وقدراته ونظرته إلى الحياة وإلى السياسة وتياراتها الفكرية، يعتبر نفسه عدواً للغرب وحضارته والنظام السياسي الذي يدين به، ولا حلفاء سليمان فرنجية، وسوريا في طليعتهم، طلبوا هذه المعركة أو أرادوها، إلا حين أعطت واشنطن نفسها حقوق السلطان العثماني أو دولة الانتداب الفرنسي، في تعيين المتصرف أو رئيس مجلس الإدارة أو رئيس “الدولة” في لبنان الصغير!
إن “الفيتو” الأميركي لا يعني غير حماية حكم الانقلاب الكتائبي الذي جاء إلى الحكم بمعزل عن إرادة اللبنانيين ونوابهم (الذين اعتقل عدد منهم قبل الجلسة، أو اتخذوا رهائن حتى اكتمال النصاب، أو حشروا في صناديق السيارات لتهريبهم من منطقة إلى أخرى والاحتفاظ بهم تحسباً لأي طارئ)،
وهذا “الفيتو” هو الذي أطلق روح الثأر وأحيا في الأذهان صورة التزوير الفاضح للإرادة الوطنية في انتخابات الغزو الإسرائيلي في آب 1982.
وما كان أسهل العلاج لو إن المعترض هو أمين الجميل ومن معه، إذا سلم له بحق الاعتراض وهو الرئيس الذي نودي بخلعه مئة مرة قبل أن يتم سنته الأولى، وألف مرة وهو لما ينه سنته الثانية، وكان يحتاج إلى معجزة في كل يوم لضمان استمراره في موقعه المهيب.
إن “الفيتو” الأميركي يحاول الانتخابات الرئاسية إلى حرب ضد أكثرية اللبنانيين، وضد سوريا، ويوفر الأرضية المطلوبة لتركيب حلف يجمع أشتات المتضررين “العرب” من الوجود السوري في لبنان جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين، خلف واجهة محلية قوامها حكم الانقلاب الكتائبي، ودائماً تحت المظلة الأميركية.
إن سليمان فرنجية، قبل “الفيتو” الأميركي واحد من المرشحين للرئاسة، قد يكون أقواهم أو قد يكون أحد الأقوياء، وقد تناقش أهليته في ضوء تجربته السابقة وسنه وما إلى ذلك من اعتبارات، وقد يلتقي على تأييده النواب أو قد يلتقون على معارضة عودته إلى سدة الرئاسة مطالبين بضرورة إتاحة الفرصة لدم جديد.
أما بعد “الفيتو” الأميركي فإن سليمان فرنجية هو المرشح الذي يعني انتصاره إنهاء لعهد “الانقلاب” الكتائبي الذي جاء بفعل الغزو الإسرائيلي للبنان وكثمرة له.
فقيمة ترشيح سليمان فرنجية الآن لم تعد تلك التي كانت له من قبل، إذا أضيفت إليها دلالات “الفيتو” الأميركي ومعاني إنهاء العصر الكتائبي، بكل الأبعاد العربية لإنهاء هذا العصر الذي شكل خروجاً على حقائق الحياة (بما فيها التاريخ والجغرافيا) في لبنان.
إن هذا الترشيح يستمد قيمة إضافية الآن من خصوم سليمان فرنجيةز
وقد يذكر هؤلاء بأنهم كانوا أصحاب فضل في منح سليمان فرنجية فرصة أن يكون أول رئيس للجمهورية انتخب مرتين ولولايتين،
وفي المرتين كان التحدي بين شروط نجاحه على خصومه الأقوياء!