في منتصف آب 1988، استقبلت دمشق “موفداً ملكياً” يحمل رسالة من قائد الجيش اللبناني (حينذاك) العماد ميشال عون، إلى الرئيس حافظ الأسد.
كانت “معركة” الرئاسة تشغل بيروت وعواصم عديدة، أولها بطبيعة الحال دمشق، ولم يكن الرئيس سليمان فرنجية قد أعلن ترشيح نفسه بعد، في حين كان طابور المرشحين يزدحم على أبواب المسؤولين السوريين، وعلى باب نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، بشكل خاص.
ولقد اختار “الموفد الملكي” الذي لا تربطه برفيق الحريري أية صلة، أن يطرق باب وزير الخارجية، فاروق الشرع، لكي يوصل الرسالة بهدوء ومن دون ضجة.
وكانت الرسالة محددة جداً: “إن ميشال عون يرى إنه رجل المرحلة، من حيث المبدأ، ويرى في نفسه من الكفاءات ما لا يرى في غيره، وإذا ما ضمن تأييد دمشق فسيكون رئيس جمهورية لبنان بلا منازع، وهو بالمقابل مستعد لأن يعطي كل ما يطلب منه”.
وكان في الرسالة : “إنني عسكري، وبهذه الصفة فإنني أعتز بأن يعتبرني القائد الكبير حافظ الأسد ضابطاً صغيراً في جيشه… وأنا قد عايشت الأزمة وأقدر كل التقدير ما قدمته دمشق للبنان عامة وللمسيحيين خاصة، وواجبي – إذا ما حظيت بتأييدها فوصلت – إن أرد لها الجميل، إنني أتفهم مصالح سوريا في لبنان، وأسلم بأن أمن لبنان من أمن سوريا، وعلى هذا فأنا مستعد لأن أقدم أي تعهد يطلب مني لضمان أمن سوريا في لبنان وانطلاقاً منه، إن سوريا تخشى أن يفيد العدو الإسرائيلي من الخاصرة الضعيفة في لبنان، ومن حق سوريا علينا أن نوفر لها أسباب الطمأنينة، وأن نشرع تواجدها العسكري في لبنان لمواجهة أي اعتداء محتمل عليها، كذلك فإنا مستعد لعقد أية اتفاقات أمنية، إضافة إلى تقنين العلاقات المميزة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية كافة”.
وكان في الرسالة : “اعرف بحكم موقعي، إن لسوريا خصوماً يناهضونها ويشاغبون على أمنها في لبنان، وفي هذا المجال فإنني مستعد لأن أقطع دابر جماعة عرفات، ومستعد لأن أرسل جماعة العراق إلى دمشق معلبين وفي صندوق السيارة،
كان العرض وردياً جداً وجميلاً بحيث لا يمكن أن يكون حقيقة، ولقد سمع الموفد الملكي رداً طيباً، فيه شكر وتقدير للعماد ميشال عون على عواطفه، لكن فيه أيضاً اعتذاراً صريحاً عن عدم تبنيه مرشحاً للرئاسة، مع إشارة ضمنية إلى إن موقعه في قيادة الجيش مهم جداً ومن المفيد الحرص عليه وحماية اعتباره بأبعاد شاغله عن وحول المعركة الانتخابية.
في 18 آب أعلن الرئيس سليمان فرنجية ترشيح نفسه للرئاسة. في 22 آب تم تعطيل النصاب ومنع نواب الشرقية من الوصول إلى مبنى قصر منصور، وكان للعماد عون دور حاسم في التعطيل والمنع.
في 19 أيلول أعلن عن وصول الموفد الأميركي ريتشارد مورفي إلى اتفاق مع القيادة السورية على النائب مخايل الضاهر كمرشح تسوية…
ثم كان إن “نط” أمين الجميل إلى دمشق في رحلة اليوم ما قبل الأخير لولايته، ولاح في الأفق احتمال إجراء مصالحة تنهي “المقاطعة” وتفتح صفحة جديدة، وتسهل إجراء الانتخابات الرئاسية،
في الوقت ذاته “نط” سمير جعجع إلى وزارة الدفاع واتفق مع العماد عون على الاستيلاء على السلطة و”الشرعية” بما يشبه الانقلاب العسكري، في ربع الساعة الأخير من عهد أمين الجميل الميمون، مستولدين معاً “حكومة استقلال وأكثر”!!
لماذا استعادة هذه الوقائع الآن؟!
يقول بعض النواب ممن لبوا “استدعاء” العماد ميشال عون بعد ظهر يوم الجمعة الماضي، إنهم استذكروها وهم يسمعونه يروي أحداث الشهور الأخيرة بطريقة تكشف إن خطته للاستيلاء على السلطة و”الشرعية” منذ زمن بعيد،
*فلقد قال لهم العماد عون ما مفاده: إن تفكيره بما تم يعود إلى أكثر من ثلاث سنوات مضت،
*وقال لهم العماد عون بعظمة لسانه ما يؤكد إنه وراء الكتاب الذي أعده قريبه العميد الركن فؤاد عون تحت عنوان “يبقى الجيش هو الحل”، وإنه بمسلكه – ومن موقعه – قد عطل إجراء الانتخابات الرئاسية بقرار واع وبقصد مقصود.
ولعلهم فهموا إنه كان سيعطلها بغض النظر عن شخص المرشح أو المرشحين، فسليمان فرنجية، في هذه الحال مثله مثل ميشال الخوري أو ميشال اده، ومخايل الضاهر مثله مثل رينيه معوض أو جان عبيد، وريمون اده مثله مثل منوال يونس وبطرس حرب.
فالمرشح الوحيد هو العماد، إذا أعطي الرئاسة بالدعم السوري والانتخاب النيابي، كان بهما، وإلا أخذها بوسائله الخاصة، وبينها التحالف المؤقت مع “القوات اللبنانية” لمصادرة الحياة السياسية والاستيلاء على السلطة وعلى غلالة الشرعية، وفي انتظار أن يكسبه الأمر الواقع “شرعية” مطلقة مع نهاية ولاية المجلس النيابي في اليوم الأخير من العام 1990، ولذلك أطلق عبر “الكتاب” الدعوة “إلى اللقاء في 1991”!
*ولقد قال العماد عون للنواب إنه صعّد حملته على سوريا وتعرض بأقذع الكلام لشخص الرئيس حافظ الأسد لكي يمد عسكره بالقوة، ولكي يعزز معنوياته… فهو يهجم “على أكبر رأس” فيوحي لمن يسمعه إنه “مدعوم” فيتماسك. ولفت العماد نظر النواب إنه تقصّد التجريح بالرئيس الأسد شخصياً لكي يضمن التزام جنوده به، لاسيما الثلث المسلم منهم… فبعد ما قاله، سيصبح صعباً على الكتلة الأساسية من جنوده، ومعظمهم ينتمون إلى مناطق التواجد العسكري السوري، أن يتركوه فيعاقبون مرتين!!
*وقال العماد عون إنه أقدم على خطوة قد تكون انتحارية فعلاً، “ولكن لم يكن أمامي غيرها، فلننتحر اليوم، إن كان لا بد من الانتحار بدل أن نموت مرة كل يوم”!!
*وقال العماد عون إنه لا يعرف بالطبع إلى أين ستنتهي مغامرته. لكنه يفترض إنها ستقود إلى ما فيه خير لبنان واللبنانيين.
*وقال العماد عون متوجهاً باللوم إلى النواب: لقد تفردت بالقرار، صحيح، ولكن السبب إنكم لم تكونوا إلى جانبي!. أنا أدير المعركة وأنتم في منازلكم تتفرجون”!
*وحين اعترض البعض أو لعله هم باعتراض، قال العماد ما مفاده إنه لا يحب المتخاذلين!
*ولما استدرك أحد النواب فقال إنه اتصل هاتفياً لطلب موعد فلم يحدد له، رد العماد عون مستهجناً: “اتصل مرة ثانية… ألا تقدر إن ظروف المعركة تشغلني وتمنعني من الرد على الهاتف”!!
*أما حين سئل العماد عن “الغربية” ومن فيها فقد أطلق سلسلة من الشتائم والنعوت والأوصاف المهينة، إذ وصف الجميع بأنهم “إما عملاء مرتهنون لسوريا وإما منافقون لا يجرؤون على الجهر بمواقفهم الحقيقية التي يهمسون بها للموفدين والسفراء الأجانب،
لكنه، في أي حال، قال ما مفاده إنه يكاد يكون مقطوع الصلة بمن هم خارج “منطقته المحررة”!
*في ما عدا فرنسا التي أطنب العماد في مدحها فقد كال الشتائم ووجه اللوم إلى معظم دول العالم، لاسيما دول أوروبا الغربية،
وفي حين أخذ على الولايات المتحدة لا مبالاتها، وشهر بجبن قيادتها من الكبير في واشنطن حتى السفير ماكارثي في لبنان، فإنه حاول أن يوحي للنواب إن موسكو تتحرك بالتنسيق مع باريس، وإنها أوفدت مبعوثاً خاصاً إلى دمشق للضغط عليها.
لكن الجنرال رفض أن يعطي أية معلومات إضافية، كما رفض التحديد ما إذا كان ما يقوله استنتاجاً شخصياً أو واقعة سياسية محددة.
*وعن اللجنة العربية قال الجنرال إنها “بدأت في تونس غير ما انتهت في دمشق”، واتهم رئيسها الشيخ صباح الأحمد وأمين عام جامعة الدول العربية الشاذلي القليبي بأنهما قد “باعانا إلى دمشق، وجاملاها بتبني موقفها على حسابنا”، وإن النية كانت مبيتة لمثل هذه الخطوة بدليل إنهما جاءا وحدهما ومن دون سائر الوزراء العرب الأعضاء في اللجنة.
*عن المستقبل قال الجنرال: إنه لا يملك أية ضمانات…
*وقال الجنرال: إنه يفترض إن عصر الآلام سيمتد لشهر وربما لشهرين آخرين،
*وقال الجنرال: إنه يتمنى لو إن “الانتفاضة” بدأت في طرابلس أو بيروت أو البقاع، إذن لهان الأمر، ولكن “عزت الرجال” فلم يكن ثمة بديل لنا كرواد وطلائع لمعركة التحرير!
إلى أين، من هنا، يا جنرال؟!
لا جواب واضحاً، لا جواب أيضاً عن سؤال أكبر: لماذا يا جنرال؟!
لكن الجنرال يقول، في النهاية، إنه إنما يريد الحوار مع دمشق، وهو يصر على وقف لاطلاق النار معها كمدخل لبدء الحوار… فإذا لم تعلن وقف النار من جانبها فالحرب مستمرة حتى آخر لبناني!
القاموس “اللبناني اللبناني” يسعف في أوقات الشدة العنفوان، السيادة، الاستقلال، الكرامة، الحرية، حقوق الأقليات، الامتيازات التي منحت لنا لأننا نستحقها!
ببساطة وباختصار : الاصلاح مقابل الأمن،
تماماً كما الشعار الإسرائيلي: السلام مقابل الأرض،
الاصلاح في نظر الجنرال دعوة انقلابية،
هكذا كان الأمر مع كميل شمعون، مع بيار الجميل ومع نجليه بشير وأمين، وحتى مع بكركي وسائر القيادات والمؤسسات الكهنوتية والسياسية المجسدة للطائفة العظمى.
ودائماً كانت المعادلة واضحة: القائل بالاصلاح متآمر وعميل للخارج العربي، ضد الكيان اللبناني!
الاصلاح حركة تمرد على الكيان، وليس حركة تصحيح للنظام السياسي الأشوه،
ومن ساند الاصلاح لا يهدد أمن لبنان أو سلامته فحسب،
ولا يهدد امتيازات الطائفة العظمى فقط، بل هو قبل ذلك وبعده يهدد الوجود المسيحي في الشرق، وينذر بإبادة 12 أو 15 مليوناً من المسيحيين الذين يشكلون “حضوراً غربياً” أو “امتداداً حضارياً” للغرب،
… في حين إن هؤلاء المسيحيين، وبأكثريتهم الساحقة، هم بعض تراب هذه الأرض وبعض وجدان هذه الأمة، بعض تاريخها وبعض ثقافغتها وبعض حضارتها وسمة أساسية من سمات وجودها ومستقبلها.
ولو إن الرئيس حافظ الأسد قد اعتمد ميشال عون ضابطاً صغيراً عنده لصار الأسد بطل الحريات وضمانة للأقليات ورمزاً للنخوة العربية في حماية الخائف وإغاثة الملهوف وسنداً للكيان اللبناني الخالد… ولربما أخذت الحماسة هذا الضابط الصغير فاندفع يعرض على رئيس الجمهورية العربية السورية الاتحاد بل الوحدة معه، كما فعل الراحل كميل شمعون!
بعد تونس كانت اللجنة السداسية العربية مثال الاستقامة والنزاهة والبعد عن التعصب والحرص على الوجود المسيحي في الشرق،
أما بعد خمسة أسابيع من اللقاء في تونس فقد صارت اللجنة إياها، برئيسها الكويتي والأمين العام التونسي (وكلاهما لبناني بالتمني) جهة منحازة ومنافقة ومعادية للبنان ومصدر خطر على الامتيازات المارونية بل على الوجود المسيحي برمته، في لبنان وخارجه.
وسر “نقمة الجنرال” ومن معه على الموقف الأميركي إن بعض كبار المسؤولين اللاحقين والحاليين، قد قالوا بضرورة إصلاح النظام السياسي ورفع الغبن وتحقيق المساواة بين اللبنانيين،
ولعل بين أسباب النقمة على اللجنة العربية إنها قد اعتمدت، نفاقاً للأميركيين وللطائفة العظمى في لبنان، ورقة تافهمة للاصلاح أعدتها ابريل غلاسبي، الدبلوماسية في الخارجية الأميركية بواشنطن يومذاك وسفيرها في بغداد الآن.
للامتيازات ثمنها،
ففرنسا هي “الأم الحنون” لأنها أعطتها وما زالت ترعاها حتى الآن، ولو غريزياً،
وللولايات المتحدة الأميركية حق الطاعة والولاء المطلق طالما أقرت تلك الامتيازات ورعت استمرارها قاعدة للنظام السياسي في لبنان،
نشتري منها الأسلحة بمليارات الدولارات، ونقداً،
نستدعيها حين تتطلب حماية مصالحها أن تتواجد عسكرياً على أرضنا أو في مياهنا الإقليمية (في 1958 ثم في 1982).
نسلمها قيادنا حتى وهي تأخذنا إلى حرب أهلية مفتوحة عنوانها الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي عبر اتفاق 17 أيار الشهير.
نقدم من أرضنا ، من السيادة ، من الكرامة، من الاستقلال، من العنفوان (!!) رشاوى لكل أمم الأرض، بشرط أن تحفظ الامتيازات وأن تدوم ولو انتهى لبنان الخالد!!
نقدم للغرب، للأميركان، للسوفيات، لليهود، ونقدم حتى للعرب “المضموني الولاء الغربي” فوق ما يطلبون، بشرط أن يواجهوا معنا، ولو بالسلاح، المطالبين بحقوق الإنسان… وأبسط الحقوق هو حق الحلم في هوية مواطن في وطن عربي، وسيد وحر ومستقل وديموقراطي!
“الضابط الصغير” يريدنا أن نصدق، اليوم، إنه يقاتل سوريا ورئيسها حافظ الأسد،
… وهو في منصبه الخطير كقائد للجيش منذ خمس سنوات، ولعله فيه كونها لم تعترض عليه أو هي لم تستخدم حق “الفيتو” في مؤتمر لوزان الذي أعاد تثبيت أمين الجميل رئيساً وممثلاً للطائفة العظمى وامتيازاتها الهائلة،
فلماذا لم يقاتل الضابط الصغير “الاحتلال” السوري الجاثم على أرض لبنان منذ العام 1976، والذي إنما دخله بناء على طلب الطائفة العظمى إياها؟!
لماذا لم يتنبه إلى وجوده إلا اليوم وهو يحاول استكمال عمليته الانقلابية في الاستيلاء على السلطة وعلى “الشرعية”، بتعطيل الانتخاب وتحريم الحديث في الاصلاح السياسي؟!
لقد لعبها “الضابط الصغير”: زوّر طبيعة الصراع، فجعل موضوعه الوجود السوري لا الانتخابات الرئاسية ولا الاصلاح السياسي.
وهو تحت لافتة الامتيازات وحمايتها يخوض الآن معركة توحيد الطائفة العظمى ولو بتقسيم لبنان،
ومن أسف إن الطائفة العظمى، وحتى إشعار آخر، أحرص على امتيازاتها منها على لبنان ذاته، علماً بأن لا مجال للاستمتاع بالامتيازات إلا إذا كان لبنان موجوداً وإلا إذا كان فيه من يمتاز عليه أصحاب الدم الأزرق من المنتمين إلى الطائفة العظمى.
فلا بد من “الشقيق والشريك” ليكون للامتيازات معنى،
والتقسيم في نهاية الأمر ليس إلا حرباً أهلية مفتوحة بين أبناء الطائفة العظمى التي سيقتتل الممتازون فيها مع غير الممتازين.
ولعل هذا هو الجواب الذي لم يستطع الجنرال عون أن يعطيه في مجال الرد على القلقين الذين يلحون عليه بسؤال: إلى أين تأخذنا أيها الضابط الصغير؟!