أخيراً بلغت الأخبار عن الضائقة الاقتصادية – الاجتماعية مجلس الوزراء ومجلس النواب، فاستنفر أولهما لجنة موسعة واستنفر الثاني اللجان جميعاً، لدراسة الوضع والشروع في تحديد وسائل العلاج!
أي أن الحكومة التي جاءت بطبل الازدهار وزمر الأعمار والتي بشرتنا بخطة للنهوض الاقتصادي تبز مشروع مارشال وتتجاوز في نتائجها المعجزة الألمانية والعجيبة اليابانية، قد اكتشفت الآن ومتأخرة جداً أنها قد تسببت في إفقار الناس بحيث باتوا على حافة الجوع.
بعد عشرين شهراً من الإعداد والتخطيط والدراسات والتلزيمات وتعديل القوانين والتشريعات بما يشجع الاستثمار ويستجلب رؤوس الأموال المهاجرة أو حتى المغامرة، تبين للحكومة أن النتائج جاءت مناقضة تماماً لوعودها والتعهدات.
فشريحة “الفقراء” هي اليوم أكثر اتساعاً مما كانت في أي يوم في لبنان، إذ أن كثيراً ممن كانوا فوق خط الفقر قد انحدروا نزولاً لينضموا إلى قافلة المعوزين.
ولأول مرة تراجعت مداخيل أصحاب المهن الحرة، من أطباء ومهندسين ومحامين والحديث هنا عن الناجحين منهم وليس عن الخريجين الجدد أو المحدودي الكفاءة والطموح، واضطروا لتعديل جذري في نمط حياتهم بحيث يحفظون كرامتهم ولو داخل بيوتهم.
وكان قد سبقهم إلى مثل هذا التعديل موظفو الفئة الأولى في الإدارات العامة والمؤسسات الخاصة عموماً، لأن دخولهم الطبيعية والشرعية باتت أدنى من أن تلبي كلفة حياتهم اليومية، نتيجة للارتفاع الفاحش في الأسعار، وارتفاع فاتورة الخدمات العامة (الكهرباء، الهاتف، المياه)، إضافة إلى التصاعد المستمر في الرسوم غير المباشرة والضرائب “المبتكرة” مع مفعولها الرجعي المفتوح.
بالمقابل فإن فئة طفيلية وافدة أخذت تكتسح أكثر فأكثر مجالات العمل المضمون الربح والسريع العائد، في لبنان، وبالتحديد المقاولات والتزام بعض مشروعات إعادة البناء والإعمار المدرجة ضمن الخططة الوهمية للنهوض الاقتصادي.
وهذه الفئة المعدودة تتشكل من أفراد ينتظمون في شبكة من “رجال الأعمال” الذين حققوا نجاحات ملحوظة في المملكة العربية السعودية، نتيجة ضربات حظ ملكية، أقطعتهم بعض صفقات المقاولات الضخمة مع نسبة من العمولات الفلكية عليها.
ومع الترحيب بأن يعود أبناء البلاد جميعاً إليها، وأن يعملوا فيربحوا، فإن الملاحظ أن هؤلاء إنما جاءوا مستدرجين بإغراءات “رسمية” مفادها أن فرص الربح هنا لا تقل عن تلك التي تمتعوا بها في مملكة لاذهب الأسود والصمت الأبيض، و”سوليدير” هي المثال الحي والشاهد الفصيح!
كذلك قمع الترحيب بأن يعيد بعض أصحاب الثروات شيئاً من أرصدتهم في الخارج لتوظيفها في سندات الخزينة طمعاً بفوائدها الاستثنائية، إلا أن تلك الأموال “المجمدة” لم تسهم إطلاقاً في تنشيط حركة الإنتاج ولم تنزل إلى “السوق” بحيث تنشط حركته… وهكذا أفادت أصحابها ولم تفد الدورة الاقتصادية، بل هي قد أضرت بها وشلتها.
إن الوضع الاقتصادي – الاجتماعي المأزوم أخطر من أن يعالج بعقلية المقاول،
إنه يستدعي علاجاً جذرياً يكاد يكون في مستوى الثورة الاجتماعية، تداركاً لانفجار محتم لا تنفع في منعه لا إثارة الحساسيات الطائفية ولا التخويف بالتدابير البوليسية وصولاً إلى التلويح بمنع التجول.
إن دخول الأكثرية الساحقة من اللبنانيين أقل من كلفة حياتهم اليومية، مهما ضغطوها وألغوا من مظريتها ونفقات الوجاهة و”العنطزة” والتباهي الفارغ.
كيف يعيش أي إنسان بدخل يقل بمجموعه عن قيمة إيجار غرفة، في أبعد مكان عن قلب العاصمة، ولا يكفي ثمناً لطعامه حتى لو اقتصر على الفلافل والزيتون، وبالكاد يسدد فاتورة الكهرباء؟!
كيف تعيش أسرة متوسطة العدد بمدخول لا يكفي لاستشفاء فرد منها لمدة يومين في أي من المستشفيات التي تتقاضى من الناس “سعر منامة” أعلى من فنادق الخمس نجوم؟!
كيف يستطيع رب عائلة أن يؤمن الأقساط المدرسية التي ترتفع كل أسبوع، والتي لم تقدر الحكومة الجبارة لا على تخفيضها ولا حتى على تجميدها، ناهيك بعجزها عن توفير البديل عبر المدرسة الرسمية المتهالكة والصائرة إلى الإقفال خصوصاً حيث يزيد عدد المعلمين فيها عن التلامذة… هذا متى وجد التلامذة؟؟
إن الأزمة أكثر جدية من أن تعالج باقتراحات مرتجلة خطرت على بال هذا أو ذاك من المسؤولين تحت ضغط المطالبة وبمنطق رشوة بعض الناقمين لأرجاء الانفجار أطول فترة ممكنة.
والأزمة أكثر خطورة من أن تعالج بوعود لا تنفذ، وبقرارات ناقصة وبتشريعات مشوهة تعطي من يملك أكثر، وتأخذ المزيد ممن لا يملك،
وحتى اليوم لم يستطع اللبنانيون التعرف إلى “السياسة الاجتماعية” لهذه الحكومة إلا عبر مجموعة من التدابير القمعية ومقابر اللجان الوزارية والتعهدات التي سرعان ما تنقض، أو الصفقات التي تنظم وتفصل على مقاس المرضى عنهم من رجالها أو شركائهم، الظاهرين أو المستترين، والتي يدفع أرباحها المكلف اللبناني بعد تخديره بأن تلك ضريبة الحرب وإعادة بناء البنية التحتية تمهيداً لقدوم موكب الازدهار.
هل من دليل على إفلاس الحكومة أوضح من أنها، وبعد عشرين شهراً من إطلالتها الميمونة، قد اكتشفت أنها أفقرت الناس وقد جاءت بوهم أنها ستغنيهم، وإنها قد رجعت بالدورة الاقتصادية إلى الخلف بدل أن تطلقها – ضمن مناخ الثقة – لتوفر الرخاء واليسر؟!
وما السر في أن “السوليدير” هو المشروع الوحيد الذي تيسر له النجاح في ظل هذه الحكومة المذهبة؟!
وكم دفع اللبنانيون من خبزهم ثمن هذا النجاح المشبوه؟!
وهل سيكون مجلس النواب أكثر وعياً بخطورة الضائقة الاقتصادية الاجتماعية وأكثر قدرة في صياغة تصور متكامل وعملي لعلاجها،
أم أن “الخوف” من الحكومة الممنوع إسقاطها سيشل المؤسسة – الام وسيجعلها تهرب من مواجهة الأزمة في عينيها إلى حلول تلفيقية لن تنفع إلا في وضع مجلس النواب مع الحكومة في وجه الأربعة ملايين من اللبنانيين المصيرين فقراء؟!