يبدو، بالدليل الدموي القاطع، إن المفاوضات أغلى كلفة من التحرير بقوة السلاح!
يومياً يسيل المزيد من الدم الفلسطيني على أرض فلسطين، ومع كل شمس جديدة يودع شعب فلسطين المزيد من فتيته الميامين الذين يطالبون بحقهم بالحياة فوق أرضهم.
وها هي كوكبة جديدة من الشهداء تحني الرمل والبحر والهواء في غزة الباسلة بنجيعها المخضب بعطر زهر الليمون، بينما ما تزال واشنطن “تدقق” في علاقة منظمة التحرير الفلسطينية “بالإرهاب”، كأنما الضحايا إسرائيليون يتساقطون برصاص المحتل الفلسطيني المدجج بالسلاح الأميركي!
سبعة شهداء خلال أربع وعشرين ساعة… في حين تحتدم المماحكة الإسرائيلية للفلسطينيين حول حقهم أو قدرتهم “على إدارة شؤون الاقتصادية في الضفة والقطاع” و”شروط إشرافهم على الأراضي ومصادر المياه وحاجتهم إلى سلطات تشريعية لتحصيل الضرائب الخاصة بهم”!!
وفي حين يثبت “الفتى الفلسطيني” جدارته بأن يكون رمز جيل جديد، والقدوة الفذة لفتية العالم كله، وليس العرب وحدهم، يصر العقل الإرهابي الإسرائيلي على التعامل مع شعب فلسطين وكأنه “قاصر” أو “معاق” وإنه بحاجة إلى “وصي” يؤهله ويدربه ويعلمه كيف يأكل وكيف يشرب وكيف يغسل قدميه قبل النوم!
والمأساة تكمن في كيفية توظيف الدم الفلسطيني المراق،
فبعض القوى الفلسطينية تحاول استخدامه للمزايدة على البعض الآخر في الداخل، في حين تجرب قوى أخرى استخدامه لتبرير المناقصة تمهيداُ للتفرد استرضاء للأميركي على حساب سائر العرب،
إن البعض يريده وقوداً للمفاوضات ومن أجل تأمين “نجاحها” بحفظ ماء وجه المفاوضين”، و”العودة بشيء” إلى الأهل المحاصرين في الداخل،
والبعض الآخر يريده “عبوة ناسفة” للمفاوضات والمفاوضين، بما يفتح له طريق الزعامة ووراثة القيادة الحالية بعد وصمها بالتخاذل وهدر دم الشهداء!
أما الأميركيون فيحاولون توظيفه لتزكية دورهم “كشريك كامل” و “وسيط نزيه” عن طريق تخويف العرب والفلسطينيين خاصة لانتزاع المزيد من التنازلات منهم حتى لا يسقط “حكم السلام الإسرائيلي”، ومن ثم الضغط به على الإسرائيلي لكي يقدم ما يمكن “بيعه” للفلسطيني على أنه المدخل إلى التسوية ولو في حدها الأدنى.
.. وأما حكومة رابين فتستخدمه لترد عنها تهمة “التفريط التي يرميها بها خصومها من “الليكوديين” وسائر المتطرفين… فوق تطرفها!
إن سوق الدم الفلسطيني مفتوحة على مصراعيها،
وهذا الدم الفلسطيني هو الذي يغذي المفاوضات بما تحتاجه لكي تستمر برغم العجز المتبادل عن التقدم الحسي في جدول أعمالها الذي يبدو أن الغموض فيه من شروط “نجاحه”!
ومظاهر الفرح الشعبي بعودة المبعدين القدامى من “منافيهم” إلى أرضهم التي في الأسر لم تفعل إلا تأكيد حقيقة بسيطة مفادها أن “الوطن الفلسطيني” محتل كله، وإن الشعب الفلسطيني كله في الأسر… وإن أسرى الداخل قد رحبوا بعودة بعض البعض من أسرى الخارج إلى المعتقل الكبير الذي يبحثون له الآن عن “حرس حدود محلي” وعن “أداة قمع وطنية” وعن “إدارة مدنية” ترضى بأن تتحمل تبعات دهر الاحتلال في صيغته الملطفة الجديدة.
والدعوة التي أطلقتها القيادة الموحدة للانتفاضة إلى مواجهة الحصار الإسرائيلي المفروض على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة وخرقه بمسيرة إلى القدس تأتي تعزيزأً للوفد المفاوض وتشجيعاً له على المضي قدماً في ما دخل فيه.
إنها محاولة لخرق الحصار حول الوفد المفاوض، أولاً، وهو حصار “فلسطيني” هناك، في حين أن أهل الداخل يخرقون يومياً – وبدمائهم – الحصار الإسرائيلي المفروض عليهم في أرضهم.
وباختصار فإن هذا الفتى الفلسطيني الذي غدا رمزاً للأمة ورمزاً لجيل الرفض والغضب والدعوة إلى التغيير، على مستوى الكون كله، يستحق أكثر بكثير مما يعرض فيتم التفاوض عليه.
وحماية دم الشهيد مهمة نبيلة تعادل في شرفها الاستشهاد نفسه، وهذا بين مهمات الوفد المفاوض، أيضاً، وقيادته المتعددة الاجتهادات والتي تبدو أحياناً وكأنها تفاوض على الاعتراف بها أكثر مما تفاوض على حقوق ذلك الفتى الفلسطيني في أرضه وعليها.