مثل “ديناصور” أفلت للتو من ظلمة كهف لم يصل إليه المكتشفون فظل ضائعاً في قعر الدنيا والزمان، اندفع إسحق شامير يخلخل السياق والانتظام العام في قاعة الأعمدة بقصر الشرق في مدريد، أمس، فارضاً على المؤتمرين من أجل “السلام” – سلامه! – جواً إرهابياً ينسجم كل الانسجام مع تاريخه الشخصي الحافل المكتوب بدم ضحاياه المنسوفين.
أسقط التاريخ لكي يتسنى له أن يُدخل المؤتمر إلى الأسطورة، مسلحاً بالتأثير المحتمل للتوراة على أعظم رموز العلمانية (إلى حد الالحاد) في الكون.
واسقط الجغرافيا من صلب الصراع العربي – الإسرائيلي لكي تنفتح أمام اليهود الأرض جميعاً، بغير حدود، فيتوسعون في المكان إلى أقصى مدى تبلغه صواريخهم الأميركية،
ولقد صفق العالم للديناصور الفصيح الذي ختم مستشهداً بسفر من أشعيا النبي: “السلام السلام للقريب والبعيد، يقول الرب”!
يخرج الوحش من الأسطورة، فيعيد استيلاد الأسطورة لكي يبقى له مكان خارج المكان، وزمان خارج الزمان، وحجم يتجاوز الإنسان، أي إنسان.
… ويقبل العالم المتمدن، وهو على وشك أن يغادر القرن العشرين، من الوحش أسطورته، متعامياً عن حقائق البشر الطبيعيين الذين ناضلوا طويلاً وربما قضوا من أجل أن تكون للإنسان حياة طبيعية تصبح فيها الأسطورة مجرد منوّم للأطفال ومنشط لإلهام الشعراء الهاربين من قيود الواقع وحقائقه الباردة.
يشهر اليهودي على الغرب ماضيه القريب، ويشهر على الشرق ماضيه البعيد، فيتحكم بحاضر الغرب وبمستقبل الشرق، مرة من موقع الضحية والمضطهد، ومرة من موقع المنتقم لاضطهاده الذي يمتد بطول التاريخ البشري وعرضه!
… ويقبل العالم من اليهودي ابتزازه الذي لا ينتهي، ويسلم له بأن يعوّض نفسه من أرض الغير ومن حق الغير في الحياة، بل ويبادر – تكفيراَ عن الاضطهاد القديم – إلى تمويل الابتزاز مضيفاً إلى قوة الأسطورة التوراتية الكثير من المدافع والطائرات والصواريخ والقنابل النووية!
خارج السياسة، ودائماً داخل الأسطورة، أسطورة المنتصر بالتوراة والقوة المادية المطلقة، كان حديث إسحق شامير، صباح أمس، مفتتحاً الجولة الأولى من حرب “مؤتمر السلام”.
في مواجهة العالم كله، ومن فوق كتفي صاحبي الرعاية، جيمس بيكر الأميركي وبوريس بانكين السوفياتي، توجه رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية طالباً من أصحابها أن يخضعوا فيلبوا شروطه البسيطة الآتية:
1 – أن يخرجوا من دينهم (الآخر) فينبذوا الجهاد،
2 – أن يعلنوا التوبة فلا يعودوا إلى الحديث عن التحرير أو الكفاح المسلح أو أي شكل من أشكال المقاومة، مهما طال أمد الاحتلال ومهما اتسعت حدوده، وفي الحال والاستقبال وإلى دهر الداهرين آمين…
3 – أن يعلنوا البراءة من الفلسطينيين، وأن يتركوهم لولي أمرهم الإسرائيلي كرعايا لديه، يقرر لهم ما لا يخدش الأسطورة ولا يبدل في الواقع القائم.
4 – أن ينددوا بالميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتباره آخر وثيقة عربية رسمية تتعامل مع فلسطين كأرض لشعب بذاته ليس “زائداً خارج إطار الزمان والمكان” وبالتالي فله الحق بإقامة دولته التي أسقطها العجز والتخلي وقصر النظر وأحادية التعاطف لدى “الشرعية الدولية”ز
5 – أن يسلموا بالقدس (كلها) كعاصمة أبدية لدولة إسرائيل!
6 – أن يفسحوا في ما تبقى من أرض الضفة المحتلة لمزيد من المستوطنين، وقد بلغوا حتى اليوم نحو مئة ألف مستوطن أو يزيد.
7 – أن ينسوا القرار 242، وحكاية “الأرض مقابل السلام”.
“أعرف إن شركاءنا سيطرحون مطالب بشأن الاراضي… لكن تحليل التاريخ الطويل للنزاع يظهر أن طبيعته ليست جغرافية… وإن تركز المفاوضات على الأرض يمكن أن يؤدي (بهذا المؤتمر) إلى طريق مسدود”.
وضمن تلافيف هذا الهذر تضييع الجولان السورية والجنوب اللبناني والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الفلسطينية.
8 – أن يسلموا بالمفاوضات المباشرة (وحدها) لأنها – وحدها – تؤدي إلى السلام!
… على أن يسلموا أيضاً بأن تصاحب المفاوضات المباشرة “مفاوضات متعددة الأطراف” بهدف التوقيع على معاهدات مع العرب، ويكون على شامير أن ينشط لكي يحصد الجوائز في المجالين،
9 – وعلى الفلسطينيين أن يوقفوا الانتفاضة والإطار عرضه السخي لهم بحكم ذاتي يتدرج على مدى سنين نحو… كيان جزئي ما داخل الإمبراطورية الإسرائيلية.
هذا من غير أن ينسى شامير تقريع الفلسطينيين على تأخرهم في الجلوس إلى هذه الطاولة على زمن كمب ديفيد.
يموّه الوحش حقيقته بالأسطورة، فالاحتلال تنفيذ لإرادة الرب وعودة إلى أرض الميعاد الموعود بها شعب الله المختار!
وحين تمتلئ الأرض بدماء أهاليها الذين حفظوها وأطعموها لحومهم وسقوها بماء عيونهم لكي تنبت العنب والزيتون والبرتقال، يشيح العالم بوجهه ليستمع إلى أساطير التلمود التي يلخصها شامير في وصفه لكل أرض عاشوا فيها من قبل، وعلى امتداد التاريخ، بأنها لم تكن سوى محطة مؤقتة في طريقهم إلى دارهم”.
تلتهم الأسطورة الحقيقة، ويلتهم الوحش البشر، ويترنم شامير بكلمة أشعيا النبي: “السلام، السلام للقريب والبعيد، يقول الرب”.
يخرج الوحش من الماضي فيحتل الحاضر ويصادر المستقبل، ويدخل العالم إلى أسطورته ويبقى العرب (والفلسطينيين منهم) في العراء، حتى يبصموا على السلام المفروض!
وصراع الحقيقة مع الأسطورة لن ينتهي في مدريد، بل لعله سيبدأ فعلياً فيها، فمن قبل واجه العرب الأسطورة الإسرائيلية المسلحة بالأوهام الكسيحة والعزلاء.
ربما سيعرفون اليوم، أو غداً، أنفسهم فيعرفون عدوهم، ويعرفون كيف يتعاملون معه، وفوق أرضهم، ويلزمونه بأن يدخل الزمان والمكان في عالم البشر الطبيعيين.