ربما كانت التعزية الوحيدة التي يمكن تقديمها لأهل الدامور هي أنهم قد خسروا بلدتهم وربحوا، وربحنا معهم وعبر مآساتهم، جولة حاسمة في معركة توحيد لبنان.
الثمن غال؟!
هذا صحيح. ولعل أهل الدامور قد دفعوا، بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن جمهور المضللين والحاقدين والمغرر بهم، ضريبة باهظة لحواجز التعصب الطائفي التي كانت تقطع الطريق على لبنان وفلسطين في آن واحد.
ذلك أن لبنان الوطن، الواحد الموحد، لا يمكن أن يمر في طريق مقفلة على فلسطين وثوارها الباذلين دماؤهم رخيصة من أجل العودة من “لبنان الجميل” إليها.
وبهذا المعنى، لم يكن ما حصل في الدامور نصراً فلسطينياً على لبنان واللبنانيين، بل كان نصراً لبنانياً – فلسطينياً مشتركاً على رموز العداء (وليس على أهل الدامور عموماً) لقضيتي لبنان – الوطن وفلسطين – الوطن.
كلانا انتصر على حاجز التعصب الطائفي والعنصري،
كلانا، بمن فينا المواطنون البسطاء والطيبون من أهالي الدامور،
وإذا كان الفلسطينيون قد فتحوا، بإزالة الحاجز، طريقهم عريضة إلى ساحة قتالهم الطبيعية في الأرض المحتلة، فإن اللبنانيين قد ربحوا، من إزالة هذا الحاجز، اندحار مشروع التقسيم الانتحاري وانفتاح طريقهم عريضة إلى لبنان الوطن الواحد الموحد.
كان الانتصار في الدامور، كما في لبنان كله، انتصاراً على التعصب والعنصرية والفاشية، ولم يكن بأي حال هزيمة للمسيحيين ولا حتى لأهل الدامور بمجموعهم.
إنه انتصار للمسيحيين بقدر ما يفتح أمامهم طريق الانتماء الأصيل إلى الوطن والأمة، ويساعدهم على الخروج من قوقعة الانعزال الطائفي والعنصري التي حشرهم فيها المتاجرون بالطائفية والتعصب، وهم هم “أبطال” تغييب الوطن ولو بقتله.
وبعد كل ما جرى في الدامور، وعلى رغم كل ما جرى، تبقى الكلمة للمسيحيين في لبنان وعليهم أن يقولوها بأعلى صوت، كمواطنين أساساً، بل كمواطنين أولاً وأخيراً.
فليست الطائفية حصناً لا يقهر، وليست هي القلعة ولا ملاذ الأمن. بل هي هي مجلبة المصائب على المواطن والوطن.
ولا مجال لقيام لبنان الوطن إلا بارتفاع المواطنين جميعاً من درك الانتماء الطائفي إلى مرتبة الانتماء الوطني والقومي. وطالما ظللنا نتخاطب، ونتحاور (؟!) بانتماءاتنا الطائفية سيظل الوطن غائباً أو شهيداً مجهول الهوية!
ليس المسيحيون (اللبنانيون كما العرب عموماً) جالية أجنبية في هذا الوطن الكبير. ليسوا رعايا دولة، أو دول، أخرى. وليسوا محميات أو أمانة في أعناق سائر مواطنيهم.
ومهين للمسيحيين، قبل غيرهم، منطق الضمانات أياً كان مصدرها خارج أمتهم العربية ذاتها. فالانتماء هو الضمانة وهو مصدر الحق بالحياة والوجود.
وقد آن للمسيحيين أن ينتصروا على ترسبات دهور القهر الاستعماري التي كانوا ضحاياها، تماماً بقدر ما كان مواطنوهم المسلمون العرب ضحاياها أيضاً.
إن وجود المسيحيين ليس موقتاً، أو طارئاً أو عارضاً… وبقاؤهم، بالتالي، ليس منة من المسلمين.
وحدهم الطائفيون يردون على الدعوة إلى تجاوز سور الطائفية بالمنطق التقسيمي : اذهبوا أنتهم إلى إسلامكم، ونذهب نحن إلى مسيحيتنا!
ولن يذهب أحد منا. نحن كلنا هاهنا باقون، وهاهنا يجب أن نبقى، وهذا أبسط حقوق المواطنة.
شعب واحد في وطن واحد ينتمي لأمة عظيمة واحدة من مفاخرها إنها أنجبت النبيين جميعاً، وأن في أفيائها نزلت ونمت الديانات السماوية الثلاث.
… وغداً نعيد جميعاً بناء الدامور ليس كحاجز بين اللبناني ووطنه المضيع، أو بين الفلسطيني ووطنه المغتصب، ولكن كموقع بارز في بناء لبنان الوطن الواحد الموحد وفلسطين المحررة.