كلما تصدى البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير لمهمة سياسية، أو فرضت عليه مهمة سياسية، وضع محبوه أيديهم على قلوبهم خوفاً على المهمة والمكلف بها.
ذلك إن هذا القسيس الكسرواني الطيب لا يتقن فنون المناورة، ويصدق، في العادة ، ما يسمع، ويتهيب “الكبار” دولاً و”قادة” فلا يتصور أن يمكروا أو يخادعوا أو يهون عليهم مصير بلد وشعب برمته فيرمونه إلى التهلكة و”الفوضى”.
ولعل البطريرك نادم على كثير من “مهماته” السياسية السابقة،
لعله قد اكتشف بعد فوات الأوان إنه استخدم أكثر مما خدم، وإن بعض مهماته أفادت الجلادين أكثر مما أفادت الضحايا الذين سرعان ما انضم إلى قائمتهم الطويلة بغير أن ترد عنه حصانته وحرمة مقره غائلة الاعتداء واستهتار المعتدين المعروفين وإن تنكروا والمقدمين عن سابق تصور وتصميم وإن أنكروا.
ولعله قد احتاط، هذه المرة، لنفسه ولمهمته، فما تسرع أو تعجل أو ارتجل أو سمح لأي طرف بأن يحتوي حركته أو يوظفها في ما لا يخدم لا وحدة الطائفة العظمى ولا وحدة لبنان، ولا بالتالي امتيازاتها أو ضماناتها أو “حقوقها” فيه.
إن الجغرافيا تحكم، أحياناً،
والبطريرك – جغرافياً – في منطقة هيمنة “القوات”،
ولكن البطريرك – سياسياً – مختلف عن “القوات” ومختلف مع شعاراتها من بدعة “المجتمع المسيحي” و”أمنه” إلى “استقلاليته” تحت لافتة الفدرالية… أو هكذا ما يفترضه اللبنانيون.
والبطريرك الماروني هو الملاذ والحصن الأخير للنادي السياسي (المسيحي)، آخر رموز “المجتمع المدني” في “المناطق التي تناوب على تحريرها” التقسيميون من آل الجميل إلى آل جعجع وصولاً إلى جنرال العتم ميشال عون،
والبطريرك الماروني تورط، غير مرة، في قبول المقدمات ثم استهول النتائج فاستنكف عن قبولها، أو هرب من المواجهة إلى جدار الصمت في الفاتيكان.
لهذا كله فإن التحرك الراهن الذي يقوده البطريرك الماروني يستقطب اهتماماً واسعاً في الداخل والخارج، خصوصاً وإن نتائجه – فشلاً أو نجاحاً – لن تقف عند حدود الطائفة العظمى، بل هي ستؤثر على سياق الأحداث في لبنان كله، وقد تكون منعطفاً “تاريخياً” له نتائج جغرافية وسياسية خطيرة.
البعض يرى إن الخارج، والخارج الأميركي تحديداً، هو منسق الأنشطة الفعلي بين بكركي و”القوات” و”نواب الغيبة” وبين حكم الطائف وحكومته التي تسعى لتحقيق توازنها السياسي ولو باعتماد الانتظار والصبر باعتباره مفتاح الفرج.
أما جنرال العتم فياكد يتهم البطريرك بالتواطؤ مع حكيم التقسيم والسعي في ركابه ومساعدته على استعادة اعتباره كمركز “للمجتمع المسيحي” إياه.
وفي حين استبق المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حركة بكركي بالمناداة بالبطريرك صفير مرجعاً ومرجعية سياسية للطائفة العظمى، فإن قوى سياسية عديدة تنظر إلى مهمته الراهنة بأنها ستشكل “جسر العبور” من التمرد والانفصال إلى الدولة الواحدة الموحدة وحكومتها الشرعية (حكومة الحص) ورئيسها المنتخب الياس الهراوي.
هل هي عودة الطائفة إلى الطائف، أم هي مقدمة لتطويع اتفاق الطائف بحيث يغدو أكثر ملاءمة لأغراض الطائفة العظمى وتطلعات قياداتها إلى الامتياز والموقع الممتاز ولو باستخدام المدفع أو الابتزاز السياسي سلاحاً؟!
المهم ألا تغيب صورة لبنان، كل لبنان، عن ذهن البطريرك الماروني وعن وجدانه، والأهم عن حركته السياسية.
ففي لبنان الواحد الموحد كان البطريرك الماروني مرجعاً مهاباً ومحترماً ومسموع الكلمة وقوة تأثير فعالة… بل هو في بعض اللحظات صار “بطلاً وطنياً”.
أما في “المجتمع المسيحي” وبحماية “أمنه” و”قوى التحرير” فيه، فقد أهين البطريرك الماروني ولأول مرة في التاريخ في حرم بكركي، وطرد شر طردة، ثم أهين مرة أخرى حين أجبر على العودة صاغراً إلى حمى جنرال العتم.
والمهم ألا يكون لقاء اليوم، وبخاصة لقاء الأحد، تجمعاً للمهجرين أو نقابة جديدة للعاجزين أو باب خروج من اتفاق الطائف بدل أن يكون باب دخول إلى الحل، إلى السلام، عن طريق هذا الاتفاق الذي أنكره أصحابه ثلاثا قبل صياح الديك!
رحيل المستوطن الأول
لم يبلغنا “الأصدقاء” الأميركان أن المستر وليام بل روبنسون هو مواطن أميركي قدم إلى لبنان، وإلى جنوبه المحتل بالذات، بهدف إنساني نبيل هو مساعدة المعاقين، إلا عندما سقط ضحية الاشتباه بهدف وجوده.
ومن الصعب أن يفهم المواطن اللبناني لماذا يعرّض مواطن أميركي مخلص (يدفع الضرائب ويقوم بواجبه الانتخابي) حياته للخطر بسبب بعض الاشكالات البسيطة التي جعلته موضع اشتباه وأودت بحياته في النهاية.
لماذا، مثلاً، دخل من الباب الخطأ؟!
لماذا جاء عبر الاحتلال الإسرائيلي، وبالتنسيق مع مخابراته وكجزء من أدواته؟!
إن كانت مهمته إنسانية فمن الطبيعي أن يكون معادياً للاحتلال، أو متناقضاً معه، لا مع المحتاجين إلى مساعدته من ضحايا الاحتلال.
وإن كانت مهمته تعني اللبنانيين فما كان أسهل أن يبلغ الحكومة اللبنانية، مباشرة أو بالواسطة، إن لم يكن للحصول على ما تستطيع تقديمه من تسهيلات فحفاظاً على الأصول، وحرصاً على شرف المهمة.
ثم ما حاجته إلى مئات الدونمات وفي موقع الاستراتيجي لا يختاره، في العادة، إلا العسكريون، وفي منطقة ما زالت مفتوحة لاحتمالات الحرب، وبحماية بعض إفرازات الاحتلال (جيش لحد) وتحت علمها وبقوة قهرها للأهالي؟!
وليام تل السويسري كان أشطر من حامل اسمه الأميركي، والفارق إن الأول دخل التاريخ من بابه وإن الثاني حاول الدخول خلسة وبجواز مزور.
وليام بل روبنسون ضحية السياسة الأميركية المعاقة، بقدر ما هو ضحية التماهي بين حدود مهمته المفترضة (؟!) وبين حدود الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.
المواطن في بلاد الآخرين صار مستوطناً في أرضك، مغتصباً لبيتك،
أليست مثل هذه الشبعة قاتلة!!
وداعاً يا أم خالد…
بوقار يليق بالحزن العريق، وبجلال يؤكد أصالة البسطاء، وبهدوء يغلف قلق الأم على بكرها المطارد حتى لا تسيء العاطفة المشبوبة إلى نبل المهمة، توارت السيدة تحية جمال عبد الناصر.
عاشت حياتها بسيطة، وبسيطة كانت المغادرة
خارج الرئاسة عاشت “حرم السيد الرئيس”، ولكنها عاشت داخل الوجدان الشعبي حتى يوم وفاتها: ظلت على وفائها لصورتها الأصلية، لطبيعتها، ربة البيت والزوجة والأم ثم الجدة، ولا شيء آخر لأنها لا تحتاج ولا تريد ولا تقدر أن تكون غير هذا.
لم تكن “الرئيسة” أو “السيدة الأولى” أو “المصرية الأولى”. لا هي طلبتها ولا هي كانت مؤهلة لتقبلها.
وظلت زوجة جمال عبد الناصر، الرجل، الإنسان، فلم تصبح ولا طمحت لأن تكون زوجة منصبه أو شريكته في وهج الرئاسة، أو متسلقة سلم المنصب لكي تفرض نفسها على المجتمع بوصفها “الأولى” في كل شيء بحق شراكة الفراش مع “السيد الرئيس”.
حتى الصور القليلة التي حفظتها لها ذاكرة المواطن العربي، في مصر وخارجها، لا تخرج عن إطار الزوجة والأم والجدة… وفي كل الحالات ربة البيت البسيطة، الوديعة الملامح، الطيبة والمتخوفة من اتهامها بإقحام نفسها حيث لا يجب أو لا يحق لها أن تكون.
“ماما تحية” رحلت بهدوء، تماماً كما عاشت.
قطعت ، أخيراً، تلك المسافة التي تفصلها عنه، البسيطة في المكان العظيمة الاتساع في الزمان، والأعظم اتساعاً في الوجدان.
… ولقد حملت معها أثقال القهر ومحاولات الاذلال التي وجهها إليها أنور السادات و”سيدته” الأولى، والتي بلغت ذروتها بحرمانها من وداع خالد.
وداعاً يا أم خالد. وداعاً أيتها الطيبة كمصر، السمراء كالعرب، المستوطنة الحزن حتى في يوم الفرح.
وداعاً، ولا تنسي أن تبلغيه إنه في الهواء ونور الشمس وطمي النيل، بعد.