طلال سلمان

على الطريق الأزمة المنسية… وراء البحر!

ينتهي لبنان، جرحاً وموضوعاً ومصيراً، عند حده مع البحر!
لا شيء عن لبنان، وحول لبنان، في ما وراء البحر الذي كنا نملأه سفينا!
في الخارج فقط شراذم من اللبنانيين معظمهم ممن حسم أمره واتخذ قراره: لن أنتظر الحل إلى أبد الأبدين، وسأعود إلى لبنان – إذا ما عدت – بعد الحل، فلنحول ما هو مؤقت إلى دائم، وكل الأرض أوطاني طالما تدبرت أمور حياتي حيث أكون.
اختفت اللهفة التي كان يشتعل بها السؤال عن “الوضع”، وغاب “الحنين” تحت طبقة سميكة من الارتباطات والترتيبات التي تحولت من “اليومي” لتلامس الرغبة في الاستقرار، مع استبقاء “الوطن”، كما لدى المهاجرين جميعاً، في مهجع الذكريات الحميمة وتمنيات الغد الأفضل!
والجواب اليائس يسبق السؤال البائس: – لا جديد، أليس كذلك؟! لا جلسة، لا انتخابات رئاسية، و”حكومة انتقالية” قد تؤدي إلى تمزيق البلد المتصدع، أصلاً؟! ماذا ينتظرنا بعد من الويلات؟!
الطريف إن “المقيم” يسابق “العابر” في طرح السؤال – الجواب، فلا أوهام حول من يعرف أكثر. كلاهما يقر الآن بجهله. لا ذاك يرى، بسبب من البعد، الصورة أوضح، ولا هذا يعرف بسبب من القرب تفاصيل تجعله أدق في أحكامه.
والملفت إن نسبة الوعي “بالمسألة” باتت مرتفعة عموماً،
فالكل يدرك الآن إن “الشخص” كائناً من كان لا يستطيع أن يحسم أمرأً قراره في يد “الخارج”، وهو أميركي، أساساً،
ثم إن الكل يدرك إن هذا “الخارج” ليس بالحرص الذي كان يتوقعه على لبنان واللبنانيين فكيف بالنظام الديموقراطي البرلماني وبالدستور والأعراف والشرعية ومؤسساتها.
لقد هوى اللبنانيون من حالق: اكتشفوا فجأة أن لبنانهم العظيم بصيغته الفريدة لا يشغل بال العالم ولا يسهد ليالي الرؤساء الكبار، وإن “دولتهم” بالكاد تسمح لهم بمكان متواضع بين دول العالم الثالث المتخلفة… بل قد تأخذ الشجاعة بعضهم إلى الاعتراف بأن اللبنانيين ذاتهم، وعبر مؤسساتهم وقياداتهم السياسية لا يستحقون إلا الموقع الذي وصلوا إليه بفضل قصر نظرهم وعجزهم عن الوصول إلى حد أدنى من التوافق، داخلياً، يسد بعض الأبواب التي تأتيهم منها الريح الصرصر!
ولأن اللبنانيين شطار في ابتداع الحلول الفردية فقد اختار كل قادر منهم الحل الذي يناسبه ثم انطلق ينصح “الآخرين” بعد أن يفرغ من لومهم، موسعاً المسافة بينه وبينهم، كان الأمر، يعنيهم، هم ولا يعنيه إلا كمتعاطف أو متضامن أو “مسعف اجتماعي”!
صار خبراً أن تسمع خبراً عن لبنان، في أية إذاعة أجنبية، أو أن تقرأ اسم هذا البلد الذي كان “ملء السمع والبصر” مكتوباً في صحيفة ، ولو في سياق أمني بحت (كحكاية الرهائن التي بهتت تماماً) أو في مجال الحديث عن الأوبئة والكوارث الطبيعية.
وحين تجلس إلى مسؤولين أو صحافيين أجانب تفجع مرتين الأولى بغياب الاهتمام، ولو في المتابعة، والثانية باللهجة الكابية التي ينطقون بها الكلمات الممطوطة عن مستقبل البلاد!
لقد ضجروا من أزماتنا المتوالدة كالفطر، ومن تفاصيل خلافاتنا التي شملت كل شيء، إطلاقاً، حتى بدأ وكأننا أعجز من أن نتفق على أي شيء.
ولقد كفوا عن إظهار استغرابهم لجديتنا في إلغاء أنفسنا ودورنا والتسليم المسبق بقدرنا المصنوع في الولايات المتحدة الأميركية.
كيف يستحضرك الآخرون إذا ما جلست تخطب فيهم لساعات مبيناً أن شأنك يقرره “الخارج”، وإنك – وهنا الكارثة – موافق ومسلم على إنك “لا أحد”، فلا رأي لك ولا موقف بالاعتراض أو بالموافقة على هذا الذي يقرر لمستقبل حياتك وخريطة بلادك!!
لماذا تعب القلب معك، إذن؟!
حتى المعني بأمرك عليه أن يتوجه إلى واشنطن، فهناك الحل والربط! ومن يصلها أولاً يعرف أولاً كيف ستكون بيروت بعد 23 أيلول!
ولماذا تلوم الخارج على أنه يتعامل مع جرح بلادك وكأنه أزمة منسية ومتروكة للزمن عله يحلها، طالما إنك تنسى بل تلغي نفسك ودورك في بلادك الجريح؟! وكيف تكون وطناً هذه الرقعة من الأرض التي لا يهتم أهلها لمصيرها ولمصيرهم فيها؟!
في فرنسا بالذات تستشعر عجزاً مشوباً بشيء من الشماتة بأهل النظام اللبناني:
“- لقد اختار هؤلاء أن يسلموا الأمر بالكامل للولايات المتحدة، بل هم ارتكبوا خطيئة مميتة حين توجهوا إليها يطلبون وساطتها مع دمشق. إنهم أكثر من جهلة. إنهم أغبياء ليتحملوان إذن، النتائج. لقد أسقطوا العالم كله من حسابهم. لم تعد فرنسا مهمة، وهي التي كانوا يعتبرونها “الأم الحنون”. لقد استغنوا عن خدماتنا. ومرت فترة أهملوا حتى إبلاغنا بما توصلت إليه “الوساطة”… وتناسوا أن دمشق لا تقبل، من حيث المبدأ، وسيطاً أجنبياً مع بلد شقيق، ولاسيما مع لبنان بالذات، طبعاً هي لا تستطيع أن ترفض الحديث مع واشنطن طالما إنها جاءتها بتكليف من الشقيق اللبناني، ولكنها – بالقطع – تفضل أن يتم “الحل” مباشرة وليس بالواسطة. ثم من قال إننا أقل نفوذاً في دمشق من واشنطن خصوصاً وإن الأمر يتصل بتسوية محدودة ومؤقتة في لبنان، في انتظار الحل الكبير والشامل للأزمة الخطيرة والمتعددة الجوانب في المنطقة بأسرها”.
ولقد تطل العنجهية الفرنسية برأسها أحياناً فتسمع من محدثك الدبلوماسي البارز ما مفاده:
“- تحسبون إن الأميركيين هم الأذكى والأبرع؟! القوة لا تصنع الذكاء، ولا تعلم الدبلوماسية، والذي لا يعرف التاريخ جيداً لا يمكنه أن يحل معضلات تقرر مصائر شعوب، تكون وجدانها قبل وقت طويل من اكتشاف القارة المقدسة!
“لا بأس، إنهم الآن يحرقون أصابعهم في بيروت، ويحرقون أصابعهم في فلسطين، وربما سيحرقونها غداً في مصر. ولكن السؤال: أين مصلحتكم أنتم في هذا؟!”
وتسمع من مسؤول آخر، أكثر هدوءاً ومداراة:
“- لن يأتيكم الحل معلباً. لا حلول جاهزة لأية مشكلة في العالم. ثم إنكم تطالبون العالم بكل شيء وتنسون أنفسكم! خذ فرنسا، مثلاً… إنها بكل حرصها على لبنان، وبكل علاقتها التاريخية بشعبه، ولنقلها بصراحة، بالمسيحيين فيه، لا تستطيع أن تقدم شيئاً لم يطلب منها. لقد اختاروا هم أن يذهبوا إلى واشنطن، ومن أسف أن بعضهم اختار أن يذهب إلى إسرائيل. هذه أخطاء قاتلة، ولطالما نصحناهم بأن هذه السياسة انتحارية ولن توصل إلا إلى الكارثة، لكننا لن نرسل طائراتنا ودباباتنا لمنعهم من ارتكاب مثل هذه الحماقات. لقد أبلغناهم بكل الوسائل، وبأصرح لغة ممكنة، إن أساس الحل هو في التفاهم مع دمشق. لكنهم ذهبوا إلى آخر الأرض لكي يطلبوا وساطة متأخرة جداً في توقيتها مع دمشق… بل وأسوأ من هذا: ليطلبوا وساطة مع شريكهم في البلاد عله يتخلى عن مطالبه الاصلاحية المتواضعة، في حين إن مصالحهم المباشرة تقتضي الاصلاح الدستوري. مضحك أن يكونوا متمسكين بعد بدستور الجمهورية الفرنسية الثالثة، وبتفسيراتهم الخاصة والضيقة الأفق لبنوده، في حين أن فرنسا نسفت ذلك الدستور من أساسه ووضعت بعده دساتير أخرى أكثر ملاءمة لطبيعة الحياة ولسنة التطور. ثم تباهون بأنكم تعيشون العصر؟!”
إشفاق ولا تعاطف، وحيرة يغالبها الضجر في غياب الاهتمام الجدي بمسألة “لزمت” بالجملة والمفرق إلى من لا يحسن التفريق بين البلدان والشعوب والمشكلات المختلفة والتي سيستمر بعضها قائماً حتى في زمن الوفاق الدولي الجديد.
“- إنه عصر غورباتشوف… هذه حقيقة، وهو عصر مختلف عن كل ما سبقه. وللوفاق الدولي فيه سياق أسرع من التصور. لكن هذا لا يعني أبداً الحل الأوتوماتيكي لجميع المشكلات في أربع رياح الأرض. هناك مشكلات ستستمر قائمة، أو مضمرة، وقد تنسى إلى حين، والخوف أن تكون مشكلة بلادكم الصغيرة بين المشكلات التي يفضل الكبار نسيانها في انتظار أن تنضج الظروف الملائمة لحلول أشمل!”
إشفاق ولا تعاطف…
وبيروت تصلها بعد أن تقطع البحر، لتجدها كومة من الحجارة الصدئة خلف مهبط الحزن بمدرجه البائس الذي بالكاد ما زال يربطها بالعالم.
فالبحر، الآن، حدود… وهو راكد، مجعدة صفحة وجهه الزرقاء، لا سفن تمخره فتؤنس وحشة النورس القليل المتبقي، في انتظار موسم هجرة… إلى المجهول!
وعند البحر ينتهي لبنان ولا يبدأ، وليس عبره تأتي القيامة الموعودة والمرتجاة.

Exit mobile version