طلال سلمان

على الطريق العودة إلى بر الشام

ما بين المطار والمطار كان كل شيء محسوباً بعناية ومرتباً بدقة متناهية، ما عدا ذلك الذي لا يقع تحت حساب أو لا يمكن ضبطه كالمشاعر والذكريات والأحلام وسائر مختزنات الوجدان.
فإن تعود مصر إلى بر الشام حدث غير عادي، لكن الضرورات تفرض أن يبدو – في الشكل – عادياً تماماً، ويمكن للعاطفة أن تنتظر حتى يتم وصل ما انقطع بهدوء ومع تجنب آلام الولادة القيصرية.
“حسني مبارك مرحب بيك الشعب العربي بحييك”
ومعها بوتيرة أسرع وبصوت أعلى:
“بالروح بالدم نفديك يا حافظ”..
لشد ما اختلف الزمان بأهله وعلى أهله.
فلا القاهرة الآتية هي قاهرة ما بعد العدوان الثلاثي وما قبل الوحدة، وبالإجمال ليست تلك القاهرة اليت كان حاضرها أعظم من ماضيها العريق، ولا دمشق التي تستقبلها هي تلك التي كان ماضيها العريق أكبر بكثير من حاضرها السياسي الممزق بين الطموح إلى المستحيل وبين العجز عن الممكن.
الآتية قاهرة الأربعة عشر مليون مشكلة، عاصمة الخمسة وخمسين مليون مشكلة (والخمسة وخمسين مليار دولار دينا، أو يزيد)، والتركة الثقيلة لعصر كمب ديفيد والانفتاح وادلمار الاقتصادي والضياع السياسي.
وشتان ما بين قاهرة ما بعد 1970 وما بين دمشق ما بعد 1970.
فثمة قاهرة أخرى، يكاد ينكرها أهلها، اختلقت بعد 1970 ثم اختلقت عالماً جديداً مختلفاً طامسة العالم الذي كان، وبالذات منه مصر التي كانت،
وثمة دمشق جديدة تعتبر خريف السبعين بداية طور جديد من أطوار تاريخها الحديث، وهي أيضاً تقدم نفسها باعتبارها البديل الصالح من عصر الاضطراب والمغامرة والتطرف الذي كان.
لقد رحل الماضي وأهله، فليكن حديث الحاضر عن الممكن في المستقبل الصعب، لتهدأ العواطف، فالواقع أقسى وأمر من أن يسمح للأحلام القديمة بأن تزهر مجدداً، والمشكلات على الجانبين أعقد وأعمق من أن يمكن تجاوزها بالتمنيات أو بحديث ساذج التفاؤل عن توحيد الامكانات المتاحة.
لكن لا بد من المحاولة، ولا بد أساساً من نقطة بداية جديدة بشرط “التحرر” من عقدة الماضي بوجهيه: الجميل منهما كما الحلم والبشع كما صورة علم العدو في قلب مدينة العروبة وقلبها.
لا بد من اللقاء، لا بد من إنهاء عصر القطيعة والمقاطعة والانقطاع، لا بد من التلاقي مجدداً، لا بد من أن يحاول الشقيقان معاً.
ما كان قد كان، حتى لو رفض مبدأ العفو عما مضى فلا بد من الانتباه إلى ما سيكون، ولعله أخطر وأقسى.
المشاعر أعمق من المظاهر وأبقى… وهكذا عاشت دمشق وعلى امتداد سبع وعشرين ساعة حالة من النشوة الوجدانية لمجرد إن رئيس مصر قد جاءها أخيراً: “رجعوا الحبايب”، بغناء ميادة الخناوني.
الزيارة هي الحدث، أما حديث النتائج والتحولات فسابق لأوانه.
وما بين المطار والمطار كان طيف جمال عبد الناصر يلقي بظله على الأمكنة والناس، ويفرض حضوره حتى على كارهيه وأولئك الذين “يناضلون” لشطبه من التاريخ أو تشويه صورته فيه.
صحيح إن “قصر الضيافة” الصغير الذي كان ينزل فيه يعاني من برد الفراغ وعتمة النسيان، لكن الساحة والشارع الممتد أمامه والشوارع الفرعية في “أبو رمانة” اتسعت ذات يوم لمئات الألوف من الدمشقيين والوافدين إليها من مختلف ديار بر الشام.
بالمقابل فإن “قصور تشرين”، المخصصة الآن للضيافة، بحدائقها الواسعة والحسنة الترتيب تفتقد تلك الحرارة التي كانت الجماهير تغمر بها “بطلها” ومعقد آمالها في إنجاز الجسيم من المهام القومية.
والمقارنات لا تتوقف عند الماضي، بل هي تمتد لتتركز على الحاضر، ولقد فعلت دمشق الحديثة فعلها في نفوس العائدين إليها بعد انقطاع قسري دام ثلاثة عشر عاماً.
ولأن الصحافيين يقولون أكثر من المكبلين بقيود المنصب الرسمي وضوابط الكلام المحسوب، فقد طفقوا يعقدون المقارنات ويسقطون مجموعة من الأوهام التي غرسها في خطابهم السياسي مناخ الخصام والمنافسة وادعاء التفوق في “المبارزة” بين “الواقعية” المنتجة و”التطرف” المخرب لكل شيء.
ولقد التزم معظم الوفد المرافق الأمانة وهو يستخلص النتائج من المقارنات الأولية: ففي السياسة كما في اقتصاد كما في الخدمات كما في الحياة اليومية تبرز دمشق مفاجأة غير متوقعة بنجاحاتها، إذا ما قيست بالقاهرة البائسة والتي يعيش أهلها سلسلة متصلة من الأزمات والاختناقات.
ويفرض الاستنتاج السياسي نفسه حتى على المكابرين والذين كانوا يتصدرون الترويج لسياسة السادات: إذن فخط السادات لم يقد إلى الازدهار والمجد والشبع، وكذلك فإن نقيضه – كما يتمظهر في دمشق – لم يقد إلى الدمار والاندثار وانهيار المرافق وأسباب الحياة.
جدول أعمال الرئيسين طويل ومثقل بالمهمات الصعبة، ولذا فقد استدعى ساعات من اللقاءات المغلقة. المهم الاتفاق على منهج البحث، ومن ثم على منهج العمل، مع الأخذ بالاعتبار الظروف المحيطة.
لقد تنامت الواقعية السياسية فباتت مؤسسة كبرى تدفن في طيات تناولها البارد كما الثلج حرارة العواطف وفيض الوجدان، وتحد الاندفاعة المتحمسة لكسر الصعب واختراق الاستحالة، لكن المشاعر لا تنطفئ بمجرد الضغط على زر، ومن هنا فالمعاناة قاسية.
كلنا في الهم شرق: مصر آتية بهمومها الثقيلة التي لا تستطيع أن تهرب منها والتي ترى صعباً عليها أن تعالجها بوصفة “سورية”… وسوريا المثقلة هي الأخرى بهمومها، وبينها بالذات تلك الناجمة عن تخلي مصر أو عن إخراج مصر من ساحة العمل القومي، لا تستطيع الادعاء بأنها تملك حلولاً سحرية لها ولغيرهأ، ولاسيما مصر المنهكة بأحد عشر عاماً من حكم السادات و”إنجازاته”.
مصر حسني مبارك آتية بلا ادعاءات، وايضاً بلا إحساس قاتل بالذنب.
ومضيفها السوري، حافظ الأسد، يستقبلها بلا شماتة أو استكبار.
لكل همومه ومشكلاته، العدو هو العدو، لكن أسلوب المواجهة مختلف حكماً عما كان، ثم إنه ليس واحداً بالنسبة للقطرين ولا بالنسبة للرجلين بظروفهما وقدراتهما المتباينة.
الهموم كثيرة وخطيرة يمكن اختزالها بذلك العنوان المفجع: الوضع العربي الراهن… أي التفكك وافتقاد الأمان، وغياب الحد الأدنى الضروري من التضامن، وافتقاد الجدية في الاستعداد للمواجهة، وعقدة العجز المستفحلة، والتنامي الخطير للإقليميات والكيانيات بعدائها المطلق لكل من وما هو قومي.
أما العناوين الأخرى فليست مفرحة على الاطلاق، وبينها:
1 – مشكلة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية في لحظة انهيار عالم القوتين العظميين وانفراد واشنطن – حتى إشعار آخر – بالقدرة على تقرير مصائر الآخرين، في الشرق والغرب.
إن لهذه المشكلة شكلها في مصر، ولها شكل مختلف في سوريا، لكنها حادة هنا وهناك، فهل من مجال للتنسيق والتعاضد، وما هي حدود مثل هذا المجال الشبيه بحقل ألغام أو بجبل ثلجي من الصعب تقدير لحظة الانهيار فيه ومداه؟
2 – يتصل بذلك مستقبل العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، إن على الصعيد الثنائي، أو على الصعيد العربي العاتم، مع موقعين متميزين لكل من مصر وسوريا فيه.
وحافظ اأسد العائد بالأمس من موسكو غورباتشوف بكل مصاعب التحول ومخاطره الهائلة فيها، يمكنه أن يرشد حسني مبارك الذاهب غداً إليها في محاولة لإعادة صياغة العلاقات المصرية – السوفياتية بما يحمي مصالح البلدين العريقة صداقتهما التاريخية في هذا “العصر الأميركي”،
إن للاتحاد السوفياتي دوره العالمي بعد، برغم مشكلاته ومصاعب التحول، ومن مصلحة العرب، بغض النظر عن عواطف حكامهم، مصلحة مباشرة في الحفاظ على هذا الدور وتعزيزه، لاسيما في ما يتصل بقضاياهم القومية ومركزها قضية فلسطين، فكيف السبيل إلى الاحتفاظ بالصداقة مع موسكو من دون إغضاب واشنطن أو خسارة مساعداتها الضرورية والتي لا غنى عنها – في المدى المنظور – في مصر المقهورة بفقرها وديون عصر الانفتاح الساداتي والنهب المنظم باسم الدين وشركاته المالية؟!
3 – ثم هناك مستقبل الصراع العربي – الإسرائيلي والاستعداد لمواجهة مقتضياته، لاسيما بعد لحظ العنصر الجديد المتمثل في موجة الاجتياح الجديدة بالمهجرين اليهود المستقدمين بالمال الأميركي والضغط الغربي من الاتحاد السوفياتي إلى أرض فلسطين وما جاورها من الأرض العربية،
لا بد من ابتداع الأسلوب المناسب، بغير اندفاع في العدائية بما يفقدنا الاتحاد السوفياتي من دون أن يكسبنا الأميركان، وأساساً من دون أن يوقف الهجرة المنظمة أو التهجير اليهودي المنظم، وأيضاً من دون التساهل أو التطنيش بما يفقدنا مع الأرض والحاضر والمستقبل.
وابتداع مثل هذا الأسلوب يقتضي (ربما) إعادة نظر في العلاقات مع كل من واشنطن وموسكو،
ولعله يقتضي قبل ذلك إعادة نظر في سياسة منظمة التحرير، أو في الموقف منها،
وإذا كان للسوريين شكواهم المرة من “نهج قيادة المنظمة”، فإن المصريين يفضلون العض على الجرح واستمرارهم في المحاولة معها لعلهم “يكبحون اندفاعاتها” المرتجلة وغير المدروسة أو يجعلون لها ثمناً بدل أن تقدم مجاناً وأحياناً بلا طلب.
لكن المبدأ، حتى إشعار آخر، عدم العودة إلى شن الحرب على قيادة المنظمة، ومحاولة استيعاب حركتها وضبط خطواتها على إيقاع التنيسق العتيد بين القاهرة ودمشق.
4 – في العلاقات العربية – العربية أيضاً تبرز مشكلة الخلاف الدائم بين دمشق وبغداد،
ولقد كان واضحاً أن المصريين تخلوا عن أوهام الحل الفوري والبسيط، وعلى الطريقة العشائرية، لهذا الخلاف القديم والمتعدد الأسباب والذي استنبت مؤسسة منتفعين به داخل كل من القطرين وخارجهما.
كذلك كان حافظ الأسد صريحاً في حديثه عنه إلى الصحافيين المصريين: إنه أمر يحتاج إلى زمن وإلى جهد دؤوب، ولا يجب أن يسود حوله أي وهم، فهو عميق الجذور، ثم إنه ترتبت عليه مواقف ونتائج لا يمكن إسقاطها أو القفز من فوقها بين يوم وليلة.
5 – في موضوع لبنان لم يكن ثمة تعارض واضحاً، لا في التشخيص ولا في وصف العلاج، من حيث المبدأ.
فلقد مضى الزمن الذي كانت مصر ترفع فيه (وهي تعني سوريا أولاً وأخيراً) شعار: ارفعوا أيديكم عن لبنان.
ومصر حسني مبارك تنطلق في نظرتها إلى مشروع الحل الجدي لأزمة لبنان من مبدأين:
الأول – أن لا حل ولا مجال لحل بالتعارض مع سوريا أو بالتضاد معها أو بالقفز من فوقها أو بإنكار دورها الحيوي في لبنان وفي التوصل إلى حل لأزمته.
والثاني – إن اتفاق الطائف يشكل أرضية الحل العتيد، خصوصاً إذا أمكن تنقية الجو بين اللجنة العربية الثلاثية وبين سوريا، بحيث يستحيل على الأطراف اللبنانية المقتتلة في ما بينها أن “تلعب مستفيدة من هامش تباين الرؤية بين اللجنة وبين دمشق.. ولا يخفي المصريون حرصهم واستعدادهم للعب “ضابط الايقاع” في هذا المجال، بما يعطيهم دوراً يرونه من حق مصر وبما يمكن مصر من التاثير المباشر كقوة ضغط في اتجاه التوازن والاعتدال.
مبكرة هي الأحكام والاستنتاجات الفورية أو التوقعات القاطعة للنتائج العملية لزيارة حسني مبارك لرفيق السلاح القديم حافظ الأسد في دمشق،
لكن المؤكد أن الطرفين هما الآن أكثر فهما أحدهما للآخر، وأكثر فهماً لما يقدران عليه معاً.
والمؤكد إن ثمة شعوراً بالارتياح كذلك الذي يعقب تخطي عقبة أو تجاوز خطر ما يغمر المسؤولين في البلدين اللذين يعلمهما التاريخ إنهما ما اجتمعا مرة إلا وكانت النتيجة خيراً لهما ولسائر أخوانهما من العرب.
هل هي بداية النهاية الفعلية لعصر السادات؟ّ!
أم هي بداية البداية لعصر ما بعد كمب ديفيد؟!
أم هي مجرد مقدمات وتمهيدات لا بد من الانتظار بعض الوقت قبل أن تتبلور سياسياً؟!
لا أحد بين المسؤولين السوريين أو المصريين يستعجل التحديد،
المهم إنهم قد قطعوا معاً الخطوة الأولى،
وفي ضوء ردود فعل القريب والبعيد يمكن استشفاف طبيعة الخطوة التالية،
والمهم إن طريق دمشق – القاهرة باتت سالكة، وهي طريق لا بديل عنها ولا غنى في أي حديث عن زمن عربي مختلف عن زمن الشقاء والتعاسة والبؤس الذي نحن فيه.
“- تصور، ها قد قاربت الخمسين وأنا لم أر دمشق الحبيبة بعد؟! تصور إنها زيارتي الأولى لهذه المدينة العربية التي تسكن وجداني ويسكنها العديد من أصدقائي ورفاق عمري.. الحمد لله أنني قد رأيتها أخيراً، وسأجتهد الآن أن أعوض الماضي..”
بهذه الكلمات البسيطة والصادقة عبر أحد المسؤولين في الوفد الرئاسي المصري، لكن العاطفة ليست هي – أو ليست وحدها – التي صنعت الزيارة أو تحكمت بنتائجها.
وعلينا أن ننتظر نتائج الصراع بين العواطف الفردية والقومية، وبين المصالح الأجنبية (والعربية أيضاً)، قبل أن نقرر طبيعة نتائج عودة مصر إلى بر الشام ومن ثم عودة الشام إلى بر مصر.
والمهم الآن أن يحمي “الحدث” نفسه، فيكون للزيارة ما بعدها،
ولعل اللبنانيين هم أكثر المعنيين بين العرب بالمردود الطيب لهذه الخطوة الأولى على طريق الصح، طريق الألف ميل من الألغام والصعاب والمشكلات والهموم الثقيلة.

Exit mobile version