طلال سلمان

على الطريق الاتفاق كإنجاز غربي!

أكثر الناس تهليلاً للاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني هم صانعوه، وصانعوه هم الغرب بدوله جميعاً، الأوروبية منها بما في ذلك الفاتيكان، والأميركية وفي الطليعة الولايات المتحدة.
وبين المتحمسين لهذا الاتفاق معظم اليهود، وبالتحديد قوى الضغط اليهودية وهي غربية بمجملها وأميركية أساساً، وبين من تحفظ عليه يبرز “الليكوديون” خارج إسرائيل كما في داخلها.
أما العرب فهم عبر أنظمتهم ملتحقون بأكثريتهم، مع وجود أقلية مؤثرة تمثلها سوريا بالدرجة الأولى اختارت “التحفظ” في انتظار تبلور الرأي الفلسطيني في الداخل والخارج، فإن هو عارض ساندته، وإن هو كان أقرب إلى التأييد أو الموافقة اكتفت بتسجيل تحفظها المبدئي للتاريخ.
وأما على المستوى الشعبي فالعرب تائهون وممزقون : هم أميل على رفض الاتفاق، لكنهم لا يستطيعون أن يكونوا “فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين”.
فالاتفاق لا يتعامل مع فلسطين كقضية عربية، بل كنزاع بين “دولة إسرائيل” وبين “الفلسطينيين” الذين اعترفت حكومة رابين، أخيراً، بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل لهم.
والمنظمة لم تكن معنية بالموافقة العربية الرسمية، مطمئنة إلى أنها ستحصل عليها نتيجة للطلب الغربي، والأميركي بالتحديد.
فقيادة المنظمة تعرف أن الأنظمة العربية بمجملها لا تستطيع أن ترفض اتفاقاً سيحتفل بإنجازه في البيت الأبيض الأميركي باعتباره “نصراً تاريخياً” أين منه الانتصار في “عاصفة الصحراء”!
وهو “نصر تاريخي” للغرب كله على العرب كلهم، لا فرق هنا بين مؤيد ومعترض أو متحفظ، تماماً كما كانت نتائج حرب الخليج الثانية نصرأً للغرب كله على العرب كلهم وليس فقط على صدام حسين ونظامه في العراق.
من هنا يتخذ “التفرد الفلسطيني” بعده الكامل، فهو ليس قراراً اتخذه ياسر عرفات ومَن معه بالانسحاب من الصف العربي لكي يفاوضوا “العدو القومي الواحد” لوحدهم، بل إنه انحياز إلى معسكر هذا العدو والارتداد منه على العرب من خندقه ولحسابه.
إنه انتقال من خندق إلى الخندق المضاد، وتحوّل من أخ شقيق وشريك في المصير ورفيق سلاح لـ “العربي” الآخر إلى مخاصم يجمعه تحالف لا فكاك منه مع “العدو” الباقي عدواً بالنسبة لسائر “الأشقاء”، أقله حتى إشعار آخر.
وبعيداً عن المصالح القومية العليا، فإن هذا الانتقال المنفرد والذي تم تدبيره في ليل نروجي يؤذي بشكل مباشر وقاس المصالح الوطنية لثلاثة أقطار معنية “بمسيرة السلام” وكان أكثر مام يعطل تقدمها فيها حرصها على تأمين “الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في أرضه”، ولو بالحد الأدنى المتاح.
هذا مع الإشارة إلى أن المشكلات القائمة بين كل من سوريا ولبنان والأردن وبين العدو الإسرائيلي إنما نجمت في الأصل عن إقامة الكيان الصهيوني بالقوة فوق الأرض الفلسطينية، ثم تمددت عبر الحروب المتواصلة ضد العرب الذين كانوا يعملون أو يطمحون لتحرير فلسطين.
وليست الهزائم العسكرية التي مُني بها “العرب”، بسبب فلسطين أو من أجلها أو باسمها، عذراً للفلسطيني كي يخرج منهم وعليهم… بل هي تنفع أكثر كذرائع “قطرية” أو “كيانية” للسوري أو اللبناني (أو المصري، حتى لا ننسى السادات) أو الأردني وصولاً على المغربي والجزائري واليمني، للتنصل من فلسطين وقضيتها وأي جهد لتحريرها وتأمين حقوق شعبها فيها.
إنه اتفاق غربي بالكامل، معاد للعرب بالكامل، وقعت عليه القيادة الفلسطينية وسيقام احتفاله التاريخي في البيت الأبيض الأميركي وليس في مكة المكرمة أو القدس الشريف.
ولا يخفف من غربيته أو من عدائيته للعرب أن معظم الأنظمة العربية تباركه وتؤيده وسوف تدعمه بماله، مرغمة في أي حال.
وبرغم انتفاء الحاجة إلى الدليل على “غربية” هذا الاتفاق، فإن بعض التعليقات الفورية الصادرة عن مراجع غربية رفيعة، تكشف موقعه في الوجدان الغربي.
*يقول وزير الخارجية الأميركية السابق ومهندس مفاوضات السلام جيمس بيكر: إن التقدم في مسيرة السلام، وإنجاز هذا الاتفاق أصبح ممكناً بعد انهيار الشيوعية.
(أي بعد انهيار من كان في موقع الحليف الدولي الكبير للعرب: الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي، المعادي للغرب).
*ويقول الوريث الغربي لروسيا بوريس يلتسين: إن الاتفاق يعادل بأهميته التاريخية هدم جدار برلين!
*أما الفاتيكان فقد اعتبره بمثابة “معجزة” لعظيم افتراقه عن الواقع ومجافاته لحقائق الحياة في هذه المنطقة.
* وأما وزير خارجية بريطانيا دوغلاس هيرد فقد امتدح “شجاعة الطرفين”.
* في حين تحدث وزير خارجية النروج يوهان يورغن هولست باسم الغرب كله عن إنجاز مذهل للغرب كله، مع التنويه بأن هذا الغرب يرى إسرائيل جزءاً منه وليست بلداً خارجه.
إنه اتفاق يخلو من لفظة “عربي” في نصه الطويل بملاحقة الأربعة!
ومفهوم أن يتعمد الإسرائيلي تغييب أية إشارة للعرب، ومثله الأميركي والنروجي، والفرنسي وسائر الغربيين.
ولكن غير المفهوم أن يرضى الفلسطيني بتبديل هوية هذه المنطقة العربية، والتي يبدل الاتفاق اسمها إلى التسمية الغربية المعتمدة والمتعمدة التي تطمس عروبتها، لذلك ورد “تعبير الشرق الأوسط” في كل ما يشير إلى المنطقة، بدءاً بالإطار “الجغرافي” لعملية السلام وانتهاء “بصندوق التنمية في الشرق الأوسط” و”بنك التنمية في الشرق الأوسط” الخ الخ…
إنه اتفاق منفرد بمعنى أنه على حساب العرب، ومعاد للعرب، وضد مصالحهم مجتمعة (قومية) ومتفرقة (قطرية).
وطبيعي أن توافق عليه تلك الأنظمة الهاربة من عروبتها والملتحقة بالغرب لحماية ذاتها من “رعيتها العربية”. إنه يبرئ ذمتها ويبرر لها قطريتها، فها هو “الفلسطيني” الذي كان حبة العقد عربياً، ينفرد فيحرر سائر القطريين بل ويبعثر العرب كيانات لا يربط بينها رابط، فإذا ما وجد فهو عبر واشنطن (والآن عبر إسرائيل) وليس مباشرة… أي كشرق أوسطيين وليس حتى كسكان أصليين في هذه المنطقة يربو عددهم على المائتي مليون عربي!
إنه اتفاق غربي في متنه وسداه.
وستكون مبالغة في التزوير أن يشارك بعض العرب في حفل التوقيع.
إنهم سيكونون، لو حضروا، بعض الديكور، بل شهود زور على زواج غير شرعي، عملوا كل ما في وسعهم لكي يتم حتى لا يظل في هذه المنطقة “بريء” أو قائل بالتغيير أو رافض للواقع القائم أو مقاتل ضد العصر الإسرائيلي، وقد عبروا هم إليه منذ زمن بعيد عبر البوابة الأميركية الواسعة بحيث تدخل منها الجمال بما حملت!

Exit mobile version