طلال سلمان

على الطريق الاتفاق – القدر وعنصريات الزمن المضاد!

أخطر ما في الاتفاق الإسرائيلي –الفلسطيني أنه غير قابل للنقاش.
إنه ليس اقتراحاً، وليس مشروعاً مطروحاً للتداول والمساومة ومن ثم التعديل بالحذف أو بالإضافة.
إنه قدر، أو شيء من “الإرا دة الإلهية”، كالموت والزلازل والفيضانات والصواعق، لا يحتاج إلى جواز مرور ولا إلى إذن بالدخول، في حين يحتاج رافضه إلى تغيير الكون بالقيامة أو بالبعث أو بما هو أصعب: بالثورة القادرة على إسقاط النظام العالمي الجديد وإعادة فرز القوى والدول إلى معسكرات تفرقها المصالح إلى حد التلويح بخطر الدمار الشامل.
إنه قدر، أو هكذا طرح على الناس، وهكذا تلقوه، أو يُراد لهم أن يتلقوه.
أقصى درجات “الرفض” تقف عند الاعتراض على التفاصيل والمطالبة بتعديل جملة هنا أو كلمة هناك.
أما “المبدأ” فخارج النقاش، وبالتالي خارج التعديل.
والحق إن العرب قد أسقطوا، ومن زمان، حقهم “القومي” في فلسطين، وسلموها – قضية وأرضاً وشعباً ومصيراً – إلى “الفلسطيني” وحده يقرر ما يراه لها أو ما يقدر عليها، واكتفوا بدور “المؤنب” أو “الناصح” أو “المعلق الصحافي”.
كان سهلاً أن يتركوه “يذهب هو وربه ليقاتلا”، أو ليصالح مستغفراً ربه… وبالتالي فقد كان سهلاً اتهامه بالقطرية والكيانية والانفصالية وصولاً إلى العنصرية.
لكنهم، حت ى يومذاك، كانوا يتقبلون – فرادى – اتهاماً مماثلاً، فلا يمكن لانفصالي وحيد أن يعيش ويبقى وينمو في بيئة قومية وفي مناخ قومي وفي جو انتصار قومي.
والحق أيضاً أن هذا النمط من الفلسطينية الذي جاءت به “فتح”، ثم أوصلته هزيمة 1967 القومية، إلى سدة القيادة في منظمة التحرير، كان انفصالياً بالفطرة كما بالنشأة كما بالثقافة التوريطية المبشر بها منذ الولادة.
وعبر الممارسة والتجارب المرة، أسقط الفلسطينيون حقهم في مناقشة قيادة منظمة التحرير، أو أنهم قد تخلوا عنه بالنكاية أو بالرغبة في التشابه مع سائر العرب، وتوقفوا عن مناقشة القائد والزعيم والرمز الذي سرعان ما صار ر ئيساً لدولة وهمية.
لكن الدولة ليست هي الموضوع أو القضية، بل إنه شخص الرئيس، وطالما أن “الشخص” موجود فعلى مقاسه تكون “الدولة”، ومن أجله، فهو “مبتدعها” ومخرجها من الظلمة إلى النور ولو على مساحة أريحا!
إنه زمن التسليم بالقدر طلباً للسلامة، فالاعتراض يأخذك إلى جنون اليأس أو إلى خانة الغرهاب الدولي حيث يوقع عليك العقاب الصارم إلى آخر فرد في ذريتك.
لقد انتهى زمن المفاضلة والخيار.
هو قرار أوحد.
ولا مجال لإسقاط ما يقرره صاحب القرار، أو التصدي ل ه بالتعبئة ضده حتى يستحيل تنفيذه.
وإذا كان قد استحال إسقاط معاهدة الصلح المنفرد (كامب ديفيد)، فإن شطب بطلها أنور السادات لم يسقطها بل لعل غيابه كان ضرورياً من أجل أن تبقى وتترسخ كنهج لا بديل منه إذا ما أراد العرب – فرادى – استعادة بعض حقوقهم في أرضهم التي خسروها في الحرب، ثم خسروا بعدها القدرة على الحرب.
وها هو الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني يأتي ثمرة (رجعية، أي متأخرة في موعدها) لتلك المعاهدة التي عجز العرب عن إسقاطها فتجاوزوها وهم يعودون إلى مصر من باب كامب ديفيد جنباً إلى جنب مع الإسرائيلي، الذي كان “عدوهم القومي”.
ترف هو النقاش في الاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني.
إنه مولود شرعي للنظام العالمي الجديد، بدليل هذه المباركات والتهاني والتهاليل بالترحيب التي توالى على إطلاقها معظم الدول في الغرب والشرق، وصولاً على الفاتيكان، مع إعلان خجول عن استعداد بعض الدول العربية للاعتراف بإسرائيل فور اعترافها بمنظمة التحرير التي نظمت إسقاط صفة العدو عن إسرائيل.
(ملاحظة: الطريف أن بين هذه الدول العربية من كان يقاطع منظمة التحرير ويحاربها ويحاصرها مالياً وسياسياً، ولعله الآن وقد اطمأن إلى مسلكها سيعود إليها مصالحاً).
من سلم بالمسيرة السلمية أسقط حقه في الاعتراض المبدئي على نتائجها.
طبعاً له الحق في مناقشة التفاصيل، ولكن من دون التأثير على القرار.
فلقد صار العالم بقرار أوحد، وهو قرار أميركي حيثما كان في أربع رياح الأرض، إلا في دنيانا العربية فهو قرار إسرائيلي… ثم إنه في واشنطن ذاتها، وتحت ظل إدارة كلينتون، قرار إسرائيلي.
الذهاب إلى مدريد كان يفترض الوصول إلى اتفاقات: أولها وأهمها اتفاق إسرائيلي – فلسطيني.
وما قنابل الدخان التي أطلقت على امتداد الشهور الماضية حول تقدم هذا المسار على ذلك، إلا “منشطات” لهذا الاتفاق الذي هيأ لمؤتمر مدريد الأرض والمشروعية والصلاحية.
لكن العرب غير المستعدين للحرب لم يعدوا أنفسهم جيداً لاحتمال اتفاقات السلام ونتائجها الخطيرة.
والذين دخلوا مدريد هم هم الذين سيعقدون الاتفاقات.
لن يتبدلوا في مدريد، ولن يصيروا أعظم وأقدر على الرفض هناك، ولن يفاجئوا الدنيا بنسف النظام العالمي الجديد.
مضى زمن التفجع والتحسر والبكاء على ما ضيّعه القصور، في الفكر أو في الأداء، أو على ما ذهب ويذهب به التفريط نتيجة لليأس أو التعب أولعدم الأهلية وعدم القدرة على الإنجاز التاريخي.
صار للعدو وحده حق أن ينجز “المصالحة التاريخية”، وأنيجر إليها الطرف العربي جراً، بحيث يفرض عليه قبل الوصول إلى الطاولة الانسلاخ من جلده ومن أحلامه ومن شعاراته ومن ذكريات النضال الصعب في الزمن الجميل.
وها هو ينجزها بالتوقيع الفلسطيني الذي قد يتحول إلى سبب إضافي للوقيعة بين “عرب فلسطين” و”فلسطيني إسرائيل”، في حين يفترض أنه ينهي به الصراع العربي – الإسرائيلي.
وياسر عرفات هو الذي سيوقع وليس صلاح الدين الأيوبي.
فصلاح الدين قابع في الماضي (وفي الحلم الباقي للمستقبل؟)، وليس موجوداً اليوم ليقضي بسيفه على المستسلمين في معسكره قبل أن يعمل ذلك السيف نفسه في الغاصب الآتي من خلف البحار لكي يجبره على العودة من حيث أتى.
كذلك فليس عبد الرحمن الداخل هو القائم بالأمر، بحيث يوقف الانهيار والاقتتال على المغانم من أجل حماية العرب والرسالة المشرفة التي أهلتهم للنصر.
إنه الزمن – المضاد،
فمن “الكرامة” في أغوار الضفة الشرقية لنهر الأردن، إلى “أريحا” في أغوار الضفة الغربية رحلة استطالت ربع قرن لتنتهي بطريقة درامية تفوق خيال أي كاتب بوليسي:
الفدائي الذي تصدى لقتال جيش الدفاع الإسرائيلي الخارج منتصراً من حرب أسطورية الوقائع ضد العرب مجتمعين، يدخل بحراسة جيش الدفاع الإسرائيلي نفسه ليكون “حاكماً” حيث استحال على ذلك الجيش الذي لا يهزم الانتصار.
لكن نقاش اللحظة الأخيرة مع الذي يستشعر خطر الضياع لو هي ضاعت لا يمكن أن يكون مجدياً في تبديل طبيعة القرار أو وجهة السير،
كذلك فإن مناقشة “العرض اليتيم” وفي ظل إنذار صريح: “تأخذه أو ترفضه فلا يكون لك شيء” لا يمكن أن تخلص إلى نتائج مرضية أو يقبلها العقل، وبغض النظر عن العاطفة والتمنيات.
ثم إن التصادم مع العنصرية المستفزة لا يمكن أن يؤدي إلى توافق بل غالباً ما ينتهي بتبادل الاتهامات بالخيانة أو بالتخلي،
إنه زمن الخسارة،
ولن يعوض خسارتك أن تشمت بمن خسر أكثر منك، أو أن تتشفى بمن تسبب في خسارتك ثم لم يعوضها بربح مجز لنفسه،
واشرف لك أن تظل “عربياً” في خسارتك، من أن تفقد إضافة إلى ما فقدت هويتك، فإذا أنت خاسر مرتين والثانية أقسى في وقعها عليك من الأولى.
إنه زمن العنصريات المقتتلة إلى حد الائتلاف والتحالف.
ولقد يكون بين مبررات السقوط الفلسطيني الادعاء بأن “العرب” قد خذلوه فدفعوا به إلى “الكيانية”، وإنه عبر الصراع مع مضطهده الإسرائيلي أخذ عنه الكثير وقلده في الكثير فانتهى بأن بات يشبهه كثيراً في “عنصريته”،
والعدائية “للعرب” تتجاوز الهمس إلى البيان الصريح فلسطينياً، ولعلها بعض الأرض التي تلاقى عليها الفلسطيني مع الإسرائيلي،
و”الفلسطيني” يستطيع الادعاء أن العنصرية المصرية المسورة بالعدائية للعرب قد حملت أنور السادات إلى مصالحة العدو الإسرائيلي قبله وربما على حسابه،
بل إن الفلسطيني يستطيع أن يحصي عدائيات للعرب تفوق عدائيته لهم، بدءاً بالمغرب الأقصى وانتهاء بالجزيرة والخليج… فكل عربي يكاد يكون معادياً للعرب مصفحاً بعدائيته لهم إلى حد الاستعداد لمصالحة من كان ذات يوم العدو القومي وبات الآن – بعنصريته الثابتة والأصيلة – الحليف الموضوعي لكل عنصرية عربية!
إنه زمن الغياب،
وحدهم الحكام حاضرون والأمة غائبة: غائبة عن الفعل، وغائبة عن الوهي بحيث لا تكاد تدرك ما يجري وهي في أي حال مغيبة ومعطلة الإدارة والقدرة بحيث لا تستطيع منعه.
وهذا الغياب لم يبدأ اليوم، ولم يتم في لحظة واحدة ونتيجة للقضاء والقدر، بل هو بفعل فاعل، وهو أمر كان لا بد منه، وقد تعاون على إنجازه الكثيرون لكي يسهل تمرير “المصالحة التاريخية” العتيدة.
المفجع أن الإسرائيلي حاضر إلى حد الاختلاف “الديموقراطي” حول هذه “المصالحة” التي تشكل عنواناً لحياة جديدة في ظل “السلام” الذي طال انتظاره له، في حين أن الفلسطيني مختلف بلا حضور، وديموقراطيته معلقة في الفراغ – كصوته – وهو يقاد إلى هذه المصالحة التي طالما هرب منها إلى الاستشهاد طلباً لحياة كريمة في أرضه التي طال تغييبه عنها.
المفجع أكثر إن كل العالم “حاضر” يشهد على هذه المصالحة ليمكنه من بعد أن يغسل يديه من دم هذا الصديق الذي تبرع بتبرئة قتلته سلفاً ( ومعهم الشهود)،
لكن العرب هم الغائبون أو المغيبون، بعضهم حتى لا يشهد على ما يقره ولا يقبل به، وبعضهم الآخر لأنه متواطئ وبعضهم الثالث لأنه حرم من عيونه ومن قدرته على التمييز بين الصديق وبين العدو.
إنه زمن الحزن العربي،
وكما أن استعادة سيناء لم تعوض اندثار مصر، فإن استعادة غزة ومعها أريحا لن تعوض اندثار فلسطين والقدس منها وفيها ولها.
لكن حزن “المصالحة التاريخية” يفتقر إلى النبل،
إنه حزن الخاطئ وليس حزن التائب، حزن الضالع وليس حزن المقهور بالعجز، حزن الذي لا يريد وليس حزن الذي حاول فلم يقدر.
إنه حزن أخرس كالمصالحة التاريخية إياها التي ولدت سفاحاً والتي يباهي بها الأب في حين تتمنى لو تئدها الأم أو تنكرها لكنها لا تملك قرارها لا في هذا ولا في ذاك.
وليست هذه نهاية العالم،
ولكنها إحدى النهايات العربية، في حين تتباعد البدايات الجديدة وتغلفها الهزائم المتوالية بالمزيد من الضباب والضياع وافتقاد الأهلية والقدرة على الفعل.

Exit mobile version