تتصرف الولايات المتحدة الأميركية، في الذكرى السابعة عشرة بعد المائتين لاستقلالها، وكأنها “مستقلة” بالعالم تقرر لشعوبه كافة مصائرها، بعد أن كانت إلى ما قبل نصف قرن، وحتى الحرب العالمية الثانية، تتصرف وكأنها “مستقلة” عن العالم تحاول أن تعزل نفسها عن هموم شعوبه ومشكلات الصراعات الدولية المعقدة والكثيرة.
من منتهى “الاستقلال” عن العالم غير الأميركي، أي عن العالم الخارجي، إلى منتهى التوغل في الخارج، بحيث يبدو “السيد الأميركي” وكأنه لا يريد لأية دولة أن تبقى “مستقلة” أو سيدة قرارها ومصيرها!
وحدها الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة السيدة المستقلة في الكون وبهذا الكون، والأساطيل والصواريخ البعيدة المدى والحصار الاقتصادي الموسوم بخاتم “الشرعية الدولية”، كل ذلك جاهز ومستنفر لتأديب من يفكر بالتمرد والعصيان!
وحدها الولايات المتحدة تقرر، وعلى الآخرين الطاعة، وإلا جاءتهم الحروب الأهلية والاتهامات بالإرهاب وحظر السفر والتعامل. قسمت الأوطان بحسب العناصر أو الطائف أو المذاهب، وفرضت في بعض أنحائها “المناطق الآمنة” تحت حماية العلم الأميركي، أو اختطف رئيس ادلولة، أو قصفت عاصمتها أو شنت عليها حرب إبادة يشارك فيها “تحالف دولي” هائل تحت القيادة لاأميركية وبأمرتها ووفق خطتها وتحقيقاً لمصالحها وتفريجاً لأزمتها الاقتصادية.
وأمس، وبينما واشنطن تحيي ذكرى “حرب الاستقلال”، كانت “الأمة” التي قاتلت “أجدادها” الأوروبيين من أجل التحرر تبدو وكأنها تزهو بقدرتها ورغبتها في استعباد الشعوب جميعاً في أربع رياح الأرض.
فبيل كلينتون، ومن قبله جورج بوش ورونالد ريغان وجيمي كارتر الخ ليسوا “خلفاء” جورج بواشنطن بقدر ما هم ورثة أولئك الذين قاتهلم أبطال التحرر الأميركيون، عن عتاة المستعمرين الأوروبيين، وفي الطليعة منهم الإنكليز.
إنهم يقاتلون أي شبيه لجورج واشنطن ورفاقه من أبطال الاستقلال، في أية دولة في هذا المعمور. وهم يلجأون إلى الأسلحة القذرة ذاتها التي استخدمها الاستعماريون الإيرلنديون والبريطانيون للتمكين لسيطرتهم، بما في ذلك تفجير الحروب الأهلية وتغذية أسباب الشقاق والاقتتال والحروب المحدودة حيثما ظهر أثر لروح التمرد والرغبة في الاستقلال.
وليست المفارقة في أن أميركيي أواخر القرن العشرين ينكرون على شعوب العالم ما كانوا يطلبونه لأنفسهم قبل قرنين، بل هي تكمن في أن الولايات المتحدة تريد وتحاول – وبكل وسيلة وبأي وسيلة – أن تفرض على العالم بأسره أن يكون أميركياً، ومن موقع التابع والعبد… فقد ولى في نظرها زمن “الحلفاء” و”الشركاء”، وسقطت “الصداقات” في مزبلة التاريخ، ولم يتبق غير “شريك كامل” أوحد يتمثل عبر إسرائيل بالصهيونية العالمية.
ربما لهذا تتداخل في السياسة كما في صراع المصالح، الملامح الأميركية مع الملامح الإسرائيلية (الصهيونية)، خصوصاً وإن الولايات المتحدة موجودة بقوة داخل الكيان الصهيوني وتكاد تشكل السند الأساسي لبقائه، كما أن إسرائيل عبر “قوى الضغط الصهيونية” موجودة بقوة داخل مركز القرار الأميركي، وتشكل أحد أهم مراكز التوجيه والتخطيط.
وصعب إلى حد الاستحالة بالنسبة إلى أي عربي، يستوي في ذلك أن يرى نفسه “صديقاً” للأميركان أو “عدواً” لسياساتهم، أن يرسم الحد الفاصل بين الاستراتيجية والمصالح الأميركية وبين الاستراتيجية والمصالح الإسرائيلية… فاليانكي في تل أبيب، والصهاينة في واشنطن، والكون مسرح مفتوح لمناوراتهم وحروبهم وأحلامهم الإمبراطورية.
وفي ما يخص هذا البلد الصغير، لبنان، فإن “الهدية المسمومة” التي جاءته من مجلس الشيوخ الأميركي، عشية العيد الـ 217، لا تتناسب أبداً مع طموحاته إلى تجديد وحدته الوطنية وتأمين أسباب استقراره السياسي وصولاً إلى استعادة سيادته على أرضه… وفقاً لمبادئ الشرعية الدولية طيبة الذكر!
ويبدو أن واشنطن قد خصت معظم العرب بهدايا مسمومة: فهي تطارد سوريا تارة بتهمة الإرهاب وطوراً بتهمة رعاية التيارات المتطرفة، في المنطقة، وهي تقصف العراق بصدام حسين وبالصواريخ البعيدة المدى، وهي تمارس سياسة إذلال يومي للفلسطينيين فتعترف بهم كبشر ولكنها لا تسلم بحقوقهم السياسية (كشعب) فوق أرضهم، وهي تطارد النظام المصري المستكين لمطالبها المنهكة والمذلة بشبح الشيخ عمر عبد الرحمن وأتباعه، وهي تفرض على النظام الليبي ما لا يقبله أي شعب يحترم تاريخه ويحرص على الحد الأدنى من الكرامة الخ…
أما الهدية الجديدة للبنان فتكاد تكون إسرائيلية مائة في المائة حتى لو جاءتنا من واشنطن، وصحيح هو الاستنتاج الذي خلص إليه “تجمع اللجان والروابط” من أن القرارات التي اتخذها مجلس الشيوخ الأميركي لم تأت نتيجة مساعي “بعض المنظمات اللبنانية – الأميركية” المحدودة التأثير أصلاً، بل استجابة لطلب اللوبيث الصهيوني الذي يريد أن يستخدم الورقة اللبنانية مجدداً في عملية الابتزاز والضغط على المفاوض العربي، لاسيما السوري واللبناني لإجبارهما على الرضوخ للشروط الإسرائيلية في المفاوضات.
ماذا تبقى من التراث التحرري في العاصمة التي تحمل اسم بطل الاستقلال الأميركي؟!
وأية عبارات يمكن أن يقولها، مجاملاً، أي مخلوق غير أميركي لممثلي “السيد” في مختلف أرجاء الأرض: هلى يهنئ باستقلال الولايات المتحدة أم يتوسل استقلال بلده هو؟!
وإذا كان كل شعب الآن يطالب باستعادة استقلاله المسلوب من طرف الأميركيين، فأي “استقلال” هو الذي تهنأ به الولايات المتحدة؟!
هل هو الاستقلال بالعالم؟!
وأي عالم هو الذي تستقل بتقرير مصيره دولة واحدة تكتسب أكثر فأكثر ملامح عنصرية، وتكاد تعطي نفسها حقوق الصهيونية ذاتها فترى إنها “شعب الله المختار”، وإن لها الحق الإلهي بالسيادة على الكون؟!