طارت “الجمهورية الثانية” فحطت في نيويورك تعرض هذا “الإبداع” اللبناني الفريد على أمم الأرض المحتشدة هناك وكل “عرضحاله” بيمينه، لعله يجد من يسمع فيشفق ويساعد على إعانة المظلوم وإغاثة الملهوف.
وبالتأكيد فإن الوفد اللبناني الذاهب بنوايا طيبة سيكون “فرجة”، ليس فقط لأنه (ربما) أكبر الوفود، بل أيضاً لأنه “أعلى” الوفود إذ يضم الأرفع مقاماً في الدولة كافة.
في أي حال فالوفد، ونتيجة للتكنولوجيا الحديثة، المعارة أو المستعارة، هو موضع “فرجة” اللبنانيين، وهم عبر صوره الطريفة يفرجون عن كربتهم ويتسلون بمتابعة المواجهات بين الحكم وبين “العشائر” اللبنانية التي اختزنت أحقادها المحمولة لمثل هذه الساعة.
من اللحظة الأولى بدأ استخدام “تشكيلة” الوفد للتنويه بصلابة مضمون الحكم وصحة تمثيله “للعشائر” – الطوائف التي ما تزال مقيمة في لبنان… ولم يكن رئيس الجمهورية بحاجة إلى شهادة شهود من أهله وهو يرد على “المتطرفين” الذين حاولوا المشاغبة بصور ميشال عون والمطالبة بحقوق الإنسان، أو برفع عقيرتهم مطالبين بجلاء جميع القوات غير اللبنانية عن لبنان (من دون تمييز)، وأخيراً بالتهجم على شخص الرئيس الياس الهراوي.
وفي انتظار اللقاء “التاريخي” مع الرئيس الأميركي جورج بوش، خلال الساعات القليلة المقبلة، سيعمد الوفد إلى إثبات مصداقية شعار رحلته “الحركة بركة”، عبر اجتماعات متواصلة مع العديد من ممثلي دول العالم، لعله يقنع من ما يزال متردداً في المساهمة برأسمال “الصندوق الدولي لإعمار لبنان”. وسمعة “الوفد” في “التطبيق” طبقت الآفاق.
“على بركة الله”، وعسى ما يكون إلا الخير، والله هم لبنان همنا، ونحن ما نريده إلا عمران كله، وإن شاء الله ما نقصر برغم ظروفنا الصعبة التي تعرفون، والله يجازي من كان السبب، ولا حول ولا قوة إلا بالله”.
بعد هذا الخطاب المؤثر من الأمير سعود الفيصل، سيكون على “الداعية” الأخضر الإبراهيمي أن يطرح البدائل مشيراً إلى استعدادات عظيمة لدى الأصدقاء الأوروبيين للمساهمة في الصندوق، ولسوف يستشهد برديفه وزير خارجية المغرب الفيلالي فيشهد له مؤكداً إن هذه رغبة ملكية سامية يعمل الحسن الثاني لتحقيقها بكل همة، بعد الاتكال على الله العلي القدير.
لكن الجميع سيشير، ولو من طرف خفي، إلى إن المفتاح في يد من “ستلتقون غداً”، فإن “هو أوما صار”، وإن هو طلب لم يتخلف أحد عن التلبية، حتى المفلس سيستدين لكي لا يحتسب في عداد المقصرين أو المتخلفين أو المتمنعين ، لا سمح الله.
وهكذا فإن مهمة الوفد خلال اللقاء مع الرئيس بوش، ستكون مزدوجة، إذ بينما سيشاغله بعضهم بالالحاح على إعطاء ضمانة مكتوبة بتنفيذ فوري وغير مشروط للقرار 425، سيكون البعض الآخر منهمكاً في الترتيب لنشل مفتاح الصندوق من جيبه الخلفي.
والوفد الرئاسي يتوجه إلى اللبنانيين طالباً دعواتهم الصالحات لينجح في المهمتين: فيسحب إسرائيل و”لحدها” من الجنوب، ويسحب مفتاح الصندوق من جيب بوش…
… والسحب، في المرتنين، سيكون “بس عل ل.ب.س”!
آخر مجلس وطني؟!
سيذكر تاريخ القضية الفلسطينية إن المجلس الوطني العشرين، الذي يفترض أن يفتتح اليوم في الجزائر، هو الأكثر شحوباً وبؤساً ونقصاً في تمثيله لهذا الشعب العربي العظيم في نضاله والتعيش في قدرته على تثمير التضحيات وبطولات المقاومة المسلحة والانتفاضة الميجدة وأشكال الصراع الفكري – السياسي – الثقافي كافة.
وإضافة إلى الوجوه القيادية المشرقة التي غيبتها الاغتيالات، فإن المجلس سيعاني خللاً نتيجة لغياب قوي أساسية ومؤثرة لا بد من مشاركتها في القرار، لاسيما متى كان حاسماً، لكي يعتبر صحيحاً فلا يُطعن به أو يعترض عليه أو يُرفض فتهتز صورة مصدره وشرعية منظمة التحرير بقيادتها على الأقل.
ولقد تميز العمل الوطني الفلسطيني، عموماً، بمناخ من الديموقراطية كان ضرورة لحماية “المنظمة” كإطار سياسي لوحدة الشعب، في الداخل وفي المحيط كما في الشتات،
لكن هذا المناخ أخذ يتضاءل، مع الأسف، عبر الخيبات والانتكاسات وخلط القيادة بين التكتيك والاستراتيجيا واحترافها المناورة، مع الخصم ومع الشقيق وحتى مع الذات…
ومع غياب المناخ الديمقراطي اتسع المجال للحديث عن تفرد القيادة، التي سرعان ما تحوّلت إلى شخص “القائد” وحده، وتزايد الخطر على المؤسسات التي باتت شكلية أو استشارية تقريباً، يتم اللجوء إليها كلما احتاج إلى “فتوى” جديدة لما سيقدم عليه، أو إلى صك براءة وغفران عما أقدم بالفعل عليه.
كانت “الديمقراطية الفلسطينية” طموحاً بالنسبة لسائر العرب الذين لم يتعوّدوا أن يسلم الحاكم منهم بالمتمايزين عنه أو المختلفين معه… وكثيراً ما لجأ إلى أطر العمل الوطني الفلسطيني بعض الحالمين بتعميم خيرات الديمقراطية على الأمة عبر “الثورة القومية” في فلسطين وباسمها.
وهي مناسبة للحزن أن يشهد العرب تلاشي الديمقراطية والشورى وبالتالي افتقاد الإطار المجسد للوحدة الوطنية الفلسطينية عبر هذا المجلس الوطني الناقص والأشوه في غياب من كان يفترض ألا يغيبوا أو يغيبوا عنه لأي سبب كان.
فبينما الوحدة، في الموقف والقرار، مطلوبة أكثر من أي يوم مضى، ينعقد المجلس الوطني و”فتح” مرتبكة أشد الارتباك، تفتقد وحدتها الداخلية كما قادتها التاريخيين الذين صنعوا مجدها، والجبهة الشعبية شبه غائبة حتى لو حضر بعض من يمثلها بشروط، والديمقراطية المشطورة تنظيمين باسم واحد (لمزيد من البلبلة) تعلن بلسان مؤسسها مقاطعتها إذا استحضر “نائبه”. وبغض النظر عن أن نايف حواتمه يشرب اليوم من الكأس ذاتها التي سقتها “فتح” قبل 22 سنة “لقائده” الحكيم جورج حبش، فإن نقل مفاعيل “الانشقاق” إلى المجلس الوطني يؤدي إلى إطلاق يد “الرئيس” وتحريره من الشركاء الأقوياء.
هذا قبل أن نصل بالحديث إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وخلافهما العلني مع قيادة المنظمة على البرنامج السياسي بكليته… وهو خلافل جوهري قد يصبح مدمراً إذا ما انتقل إلى “الداخل”، حيث يستعد الإسرائيليون لاستثماره من أجل تمرير مشاريعهم اللاغية للفلسطينيين، بعدما نجحوا – ولو مؤقتاً – بشطب “فلسطين” من جدول أعمال “مؤتمر السلام” العتيد.
لكأنما الصراع يتركز الآن على: من من الفلسطينيين سيذهب إلى مؤتمر بين مهامه دفن فلسطين، كقضية ومشروع دولة ووطن شعبه بالملايين؟!
ثم يجيء دور “جبهة الانقاذ” التي تحققت بالملموس أن حضورها لم يكن مرغوباً فيه، ولذا أطالت قيادة المنظمة الأخذ والرد حول موضوعات الحوار ومكانه وزمانه وظروفه حتى جاء موعد انعقاد المجلس الوطني والحوار لم يبدأ بعد!!
أما “المجلس الثوري” فكأنه كان يتوقع مثل هذه النتيجة فلم يعلق كبير أمل لا على الحوار ولا على الدعوة، ولعله لا يعلق أهمية أكبر على المجلس الوطني ونتائجه ذاتها.
ويبقى أهل الداخل وما بينهم وهو كثير،
وأهل الخارج وما بينهم، وهو أكثر،
وأهل الشتات وما بينهم وبين الآخرين من افتراق لعله وصل في بعض الحالات إلى قطيعة كاملة وإلى الجهر بسقوط القيادة والمرحلة وضرورة البدء من جديد.
ثم ما بين أهل الداخل وأهل الخارج،
ثم ما بين هؤلاء وأولئك من جهة وما بين النظام الأردني،
ثم ما تعده الأنظمة العربية (العديدة!!) للخلاص من منظمة التحرير ولإسقاط أي تفكير (في الحاضر والمستقبل) في دولة فلسطينية، أي دولة…
ويتحدث “الخبراء” عن ألغام سوف تنفجر في قلب المنظمة، ويتكهنون بأنه سيكون “آخر مجلس وطني”، وإن إطار منظمة التحرير لم يعد هو الصالح لمهمات الغد ولا بد من استبداله بصيغة ما قد تكون “الحكومة المؤقتة”، أو هي قد تكون تسليم أهل الخارج لأهل الداخل لأن يختاروا ما هو “ممكن”، على أن يستمروا هم في النضال من أجل ما هو حق…
كل هذا وليس أمام الفلسطينيين عروض جدية قد تعوضهم الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية المشروعة في بلادهم، وتضمن ولو لمن هم تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر منهم الحق ولو في حكم ذاتي.
وصحيح إن “المؤتمر” لا يمكن أن ينعقد من دون الفلسطينيين وفي غيابهم، وإن ما يقوله الأميركيون مجرد تهويل، إذ وجود “طرف فلسطيني” هو حيوي وأساسي وضرورة لاستقامة السياق، تماماً مثله مثل الإسرائيلي،
ولكن من هو هذا “الطرف” الفلسطيني، طالما صار الفلسطينيون “أطرافاً”؟!
وهل يكون الخلاف المتفاقم في ما بين قواهم ذات الثقل التمثيلي هو “المسرب” الذي ينفذ منه “رف” غير مؤهل وغير مفوض مهمته القبول بما هو مرفوض، ثم يختفي وتبقى نتائج خيانته أمراً واقعاً صلباً يحكم مسيرة النضال الوطني الفلسطيني مستقبلاً؟!
وأين مسؤولية ياسر عرفات ومن معه عن مثل هذا الأمر الخطير لو وقع؟!
المهم النتائج، فلننتظرها، يقول بعض المشفقين على الفلسطينيين عموماً وعلى قيادتهم المتعبة والمثقلة بالخيبات (العربية) والانتكاسات وسوء الإدارة،
ولكننا تعوّدنا ، في السنوات الأخيرة، ألا تعقد قمة عربية، ولا يلتئم مجلس وطني فلسطيني إلا بالطلب، ولا تخرج عنها أو عنه إلا مقررات “متفاهم عليها” سلفاً، ولذا فهي تفصل تفصيلاً ووفقاً “للوعد” الأميركي.
فعسى ينجح المجلس الوطني، في أن يحد الخسائر والأضرار ولا تنجح مساعي المنصرفين عن الكفاح (مسلحاً أو سلمياً) في تدجين آخر الثوار العرب وفي “إغرائهم” بالتوقيع على وثيقة إدانة لتاريخهم… وهو بعض الصفحات المشرقة القليلة في تاريخ هذه الأمة المجيدة.
ملاحظات سريعة
جاءت الألوان مع الخريف، انتهى زمن الشعاع المبهر واقتحم الأصفر والوردي والأحمر والأزرق دنيا الخضرة التي أحرقها الصيف بنيرانه فصارت غبراء.
وعادت أسراب الطيور المهاجرة، مستأنفة بحثها الدائب عن وطن يقع دائماً خلف الأفق وبعد الغيم والبحر، وعلى حدود الحلم.
… ودار الموظفون يستدينون لدفع الأقساط المدرسية الفاحشةن يرهنون أيامهم لكي يوفروا (؟!) لأبنائهم فرصة التعليم العالي لعلهم يعيشون حياة تليق بكرامة الإنسان وهي الأمنية التي عز على الآباء نيلها.
انتهى حلم ليلة الصيف، وهبط الهم ثقيلاً على الناس، وعاود الرحيل أولئك الأحباء الذين أطلوا فغنوا معنا “راجع راجع يتعمر راجع لبنان”، ثم ودعونا متمنين لنا أن ننجح في تعميره وقد زودونا بالكثير من النصائح والدعوات والتمنيات الطيبة.
ليس الوطن مصيفاً، وليست أشلاؤه مكاناً مناسباً لرحلة سياسية منظمة.
وهل غياب الوطن أو الغياب عنه شرط لأن نحبه؟!
استوطن حلمك، فهناك الحب، وهناك يتفتح الورد حتى في عز الخريف.