يوماً بعد يوم، تتكامل ملامح الخريطة الأميركية للمنطقة العربية، وتتكشف أكثر فأكثر خطة كيسنجر القائمة على تقديم مجموعة من التنازلات الجزئية والشكلية لأخذ تنازلات عربية تمس جوهر القضية القومية بل وتحاول إلغاؤها تماماً.
يعطي جزءاً من سيناء، وسيناء كلها إذا اقتضى الأمر، على أن يأخذ من مصر عروبتها..
يعطي بعض الجولان، ومعها القنيطرة، على أن يأخذ من سوريا “انسحابها” من ميدان القضية الفلسطينية،
يعطي “كياناً” ذاتياً للفلسطينيين، على أن يأخذ منهم كيانهم الوطني،
ولا يهمه بعد ذلك أن يعطي السوفيات هامشاً من التواجد غير المؤثر، في خاتمة المطاف، على مجريات المستقبل في هذه المنطقة الذهبية!
أي أنه يريد، ببساطة، أن يحول الوططن العربي إلى أرخبيل: تتناثر في أنحائه مجموعة من الجزر، كل منها مفصولة ومعزولة عن الأخرى، غارقة في قوقعة همومها المحلية: التعمير، إعادة إسكان المشردين واللاجئين، تسريع برامج التنمية لمحو آثار الحرب ودمارها الخ.
فبين مصر وسائر المشرق قوات الطوارئ ثم إسرائيل..
وبين سوريا وفلسطين قوات الطوارئ ثم “الكيان” الذاتي للفلسطينيين الذي لا يمكن أن يكون – في العين الأميركية – أكثر من عازل، بوصفه منطقة مجردة من السلاح والمسلحين..
وبين الفلسطينيين و”الوطن” أو “الدولة الديمقراطية” هذا الحزام العسكري الكامل: الأردني – الإسرائيلي.. إضافة إلى قوات الأمم المتحدة!
أرخبيل حقيقي: جزيرة مصرية إلى الجنوب، وجزيرة سورية إلى الشمال، وجزيرة فلسطينية في القلب، وجزيرة أردنية..
وإسرائيل جزيرة محروسة بالقبعات الزرقاء وبالضمانات والمعاهدات واتفاقات فك الارتباط!
.. أما البترول فجزيرة أخرى تملكها من الباب إلى الباب الولايات المتحدة الأميركية بلا شريك.
وليبق السوفيات محاصرين في شريط ضيق، مهددين في كل لحظة بأن تأخذهم حركة الجزر التي ستعقب حركة المد المتوارية وراء الأفق.
على أن الشرط الأساسي لتحقق الحلم الأميركي هو أن يهجر سائر العرب هويتهم وانتماءهم القومي، فيعود المصري فرعونياً، والفلسطيني كنعانياً، والسوري كلدانياً أو آشورياً أو حثيا الخ.
والتاريخ يثبت أن مثل هذه المراهنة فشلت من قبل: يوم فرض الاستعمار القديم معاهدة سايكس – بيكو عام 1917.
لقد نجحت المؤامرة جزئياً، فتم تقسيم الوطن العربي إلى دويلات،
لكنها جميعاً ظلت عربية، وظل إدراكها لأهداف المؤامرة يشحذ ويجدد نضالها من أجل الوحدة.
ولن يتحقق الحلم الأميركي، ليس فقط لأن الانتماء القومي، ازداد قوة، بل أيضاً لأن نتائج حرب تشرين – التي بسببها تحرك كيسنجر – لا يمكن أن تعزز مثل هذه الهزيمة التاريخية.