… والمديث بحدة عن مواقف بعض حكام الجزيرة والخليج يصدر عن خيبة الأمل فيهم وهم أرومة وأصلهم وحماة الأقدس من مقدساتهم.
ليس سراً أنهم يتصرفون تحت الضغط الأميركي القوي، ولكن المفاجئ أن يخضعوا خضوعاً يتجاوز حدود الطلب، ولاسيما وإن الأمر يتصل “بمقدسات” عربية أخرى، وإن كانت خارج حدود “مملكة الصمت”.
ثم إنهم أعطوا الأميركيين ما لم يكونوا ليحلموا به، ودفعوا من خيرات هذه الأمة ما جدد الدماء في الشرايين المتصلبة للاقتصاد الأميركي… أفبعد هذا يعطون أيضاً، ومن الأرض التي لا يعد لها الذهب، ومن الحقوق التاريخية لأخوتهم الفلسطينيين وسائر العرب والمسلمين مما لا يقدر بثمن ولا توازيه ثروات الكون الكامنة أو الظاهرة؟!
ومن حق أي مراقب أن يفترض إن “العربي” الذي أعطى بغير حساب، وأباح للأميركي ما لم يكن جائزاً له ومحرماً عليه، سيأخذ منه بالمقابل بعض “الحياد” في موضوع فلسطين، بدلاً من انحيازه المطلق والجائر إلى الإسرائيلي.
أكثر من ذلك: كان في مصلحة السعوديين والكويتيين أن يثبتوا وبالمحسوس إنهم هم القادرون – وعبر العلاقة الخاصة جداً مع الأميركي – على أن يستخلصوا للفلسطيني بعض حقوقه في أرضه.
أما اليوم فإن الفلسطيني، ومعه كل عربي له أرض محتلة، يخاف من أن يؤدي “خنوع البنادرة” للإرادة الأميركية، إلى إضاعة ما عجز عن إضاعته صدام حسين ذاته!
لكأن صدام حسين أفقدهم بالحرب الخاطئة، في زمانها ومكانها والهدف، بعض تلك الحقوق، ثم جاء “خصوم” هذا الدكتاتور ليكملوا ما بدأه فيضيعون سلماً ما لم يذهب بالحرب كله!!
وليس من مصلحة حكام الجزيرة والخليج أن يقال غداً إنهم هم الذين ضيعوا بعض الأرض العربية، بما فيها القدس الشريف، وإنهم كانوا قادرين فتخلوا أو إنهم ذبحوا أخوتهم لاستنقاذ أنفسهم، في حين إن هدر دماء الأخوة لا يحمي عرشاً ولا يوفر الاستقرار لدولة يرتبط مصيرها بإرادة الخارج، وهي إرادة قابلة للتبدل وفق المصالح، فإذا جاءت ساعة التبديل مشت الدبابات الأميركية على أجساد الأصدقاء “بلا رحمة”، بينما سفيرهم يهنئ قائد الانقلاب “المجسد لرغبات الشعب”.
ولقد ميز العرب، وهم حتى الساعة يميزون ، بين مواقف حكام السعودية والكويت، وبين مواقف الآخرين من زعماء مجلس التعاون، وبالتحديد رئيس دولة الإمارات وأمير قطر، وقد حرص هذان المسؤولان العربيان – وبحكمة – على عدم الانجراف مع الإرادة الأميركية إلى مداها الأقصى.
وما زال بوسع مجلس التعاون الخليجي أن يعلن موقفاً يحمي وجوده، كمؤسسة، ويحمي ما تبقى من سمعته عربياً، ويحمي أخيراً بعض ما تبقى من “مكانته” في العين الأميركية… فالالتحاق طريق خطر خصوصاً وإنه يؤدي إلى مواجهة (ولو في المستقبل) مع “الرعية” الرافضة بأكثريتها للصلح وحتى لمبدأ المفاوضات ذاته.
إن الحساب يكشف إن السعودية والكويت قد أعطت الأميركيين أكثر بكثير مما أعطوهما، فإلى متى يستمر النزف، ولماذا هذا التبرع بحضور المؤتمر المتعدد الأطراف في حين إن موضوعه يمس – أكثر ما يمس مستقبلاً – أغنياء العرب أكثر من فقرائهم؟!
لقد دفع العرب – على الضفتين – فاتورة غالية من دمائهم بسبب النفط، حتى لتتضاءل كلية تلك “الإنجازات” التي تحققت بفضل عائداته التي لم يحصل العرب منها إلا الفتات بينما ذهب القسم الأعظم إلى المستثمر الأجنبي، فهل يدفعون، بعد، من أرضهم ثمناً لاستمرار نزح ثرواتهم إلى أعدائهم؟!
والقدس أغلى من النفط، مهما بلغت عائداته،
ومن يفرط بالقدس لن يستطيع الادعاء أنه قادر على حماية مكة فكيف ببيروت والقاهرة ودمشق وسائر العواصم؟!
والأرض هي التي تعطي النفط، أما النفط فلا يعطي أرضاً نتبن الزرع والأحلام والكرامة.