طلال سلمان

على الطريق الانتخابات كإعلان بانتهاء حكم الحرب

هل من إدانة لهذا الحكم أقسى من كون المواطن أخذ “يتحسر” على أيام الحرب الأهلية، إذ يرى – بالمقارنة – إنها كانت أقل إضراراً به من “إنجازات” حكومة الوفاق الوطني؟!
وبالمعنى الحسي المباشر، أي الاقتصادي – الاجتماعي، فإن “الحرب” مستمرة، وإن كانت قد اتخذت منحى آخر أشد خطورة، إذ اجتمع على المواطن “أمراء الحرب” و”ملوك السلام” من دون أن يحلوا له مشكلاته، بل إنهم أضافوا إلى أعبائه أعباء إضافية تتمثل في كلفتهم… الباهظة.
لقد “طارت” الجوائز التي زينت صورة “السلامط وامدته بمزيد من السحر، إضافة إلى كونه هدفاً بذاته،
“طار” الصندوق الدولي لإعمار لبنان، و”طار” قبله الداعية والمروج والسموق لهذا الصندوق المرصود: الأخضر الإبراهيمي،
وفي مدينة مراكش، حيث تم آخر لقاء بين وزير خارجية لبنان فارس بويز وبين وزراء اللجنة الثلاثية المعنيين بالوفاق الوطني وبالصمندوق، كان هم الأخضر الإبراهيمي أن يطمئننا في لبنان على الجزائر المهددة بحرب أهلية أشد وأبشع مما عرفنا، وكان هم وزير الخارجية المغربي عبد اللطيف الفيلالي أن يطمئن سامعيه إلى أن المغرب قادر على تجاوز انعكاسات الأزمة في الجزائر وإن “إسلامييه” ليسوا بمثل خطورة “الجماعة” في الجزائر وتونس وما بعدهما… أما وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل فقد اهتم بالاطئمنان على لبنان واللبنانيين متجنباً أي ذكر أو أية إشارة إلى الصندوق الدولي لإعمار لبنان.
ومع أن لبنان متفهم لحراجة الوضع الداخلي في السعودية، ومدرك أن القرار بقيام الصندوق أميركي أولاً وأخيراً، فما يستعصي عليه فهمه هو هذا الانصراف عنه وتركه في غياهب أزمته الاقتصادية الخانقة، والتي يدرك الجميع خطورتها على الوضع الهش فيه.
للمناسبة: أين مبلغ السبعماية مليون دولار التي قيل أن الملك فهد بن عبد العزيز قد وعد الدولة بها، في مخابرة هاتفية مع الرئيس الهراوي، كخطوة حاسمة في اتجاه إقامة الصندوق؟!
من حق الحكم أن يقول إن الولايات المتحدة الأميركية تحاربه، وتحاصره وتضيق عليه بالحد الأدنى من المساعدة الضرورية.
فعلى الرغم من أن جميع المشاركين في الحكم، وعلى مختلف المستويات، وعلى أي جبهة من جبهات الحرب كانوا، وكذلك الذين لم يحاربوا أو يُحاربوا، أعقل من أن يظهروا أو يبطنوا أي غل أو حقد أو كراهية أو اعتراض أو معارضة – لا سمح الله – لملك الكون الأميركي، فإن واشنطن لا تفتأ تحاربهم وتشل قدرتهم على الإنجاز!
كيف تحارب واشنطن الحكم في لبنان؟!
إنها لا تفتأ تذكر أن لبنان بلد غير آمن، وإن وضعه الراهن مؤقت وانتقالي ولا يوحي بالاطمئنان أو الثقة.
فهي تصدر، وبمعدل مرة كل ثلاثة أشهر، بياناً علنياً يكرر حظر السفر إلى لبنان، أو حتى المرور بمطار بيروت على الرعايا الأميركيين…
وهي تفعل ذلك بطريقة تشهيرية مدوية بحيث تحرض المزيد من اللبنانيين على الهجرة من أرض الموت المهددة بعد بروب جديدة، وإلا فلماذا يمنع الأميركي من المجيء؟!
بل إن هذا التشهير يمنع أي طرف دولي أو عربي، وحتى أي متمول محلي، من توظيف قرش واحد في لبنان، أو من أظهار استعداده لتمويل أية خطة إنمائية تحت عنوان إعادة الإعمار.
ثم تضيف واشنطن فتمدد إجازات الإقامة الاستثنائية لمن قبلته إدارتها وأعطته صفة “اللاجئ” من اللبنانيين وسمحت له أن يبقى فيها لينعم بأمانها الوارف.
في مجال الأسباب التخفيفية يمكن، أيضاً التذكير، بواقعة جرت في مدريد، وعلى هامش أعمال ذلك المؤتمر “التاريخي” الذي افتتح المفاوضات المباشرة بين العرب وبين “عدوهم” الإسرائيلي،
لقد قالها بندر من سلطان مداورة، نقلاً عن وزير الخارجية لاأميركي جيمس بيكر، بأن إسهام لبنان في إنجاح المفاوضات يسهل كثيراً إمكان توفير المساعدات الضرورية لترميم وضعه التعيش الذي تسببت فيه الحرب.
وقالها جيمس بيكر مباشرة حين حاول اللبنانيون استيضاحه حقيقة الأمر… ولا يخفف من وقع الصدمة أن يكون غلف ذلك كله بدبلوماسيته معززة بمهابته كصدر أعظم للباب الأميركي العالي.. جداً!
لكن ذلك كله لا يفسر ولا يبرر هذا الانحطاط المزري في وضع الحكم، بل لعله يفضح عجزه مرتين:
1 – مرة أولى عن التفاهم مع “الصديق الكبير” والراعي الأصلي لاتفاق الطائف.
2 – ومرة ثانية عن تدارك نتائج مثل هذا الأمر الجلل الذي لم يكن سراً عليه أو جاءه من حيث لا يدري أو لا يتوقع.
وإذا ما تم حصر الكلام في البند الثاني يمكن طرح مجموعة من الاسئلة والتساؤلات البديهية الكاشفة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
*هل أعد هذا احلكم خطته لمواجهة السنة (بل السنوات) الصعبة، بما يتناسب مع ثقل المهمة وخطورة الالتزامات؟!
*هل أحصى “قروشه البيضاء” وحدد أين وكيف وبأي مقدار يوظفها أو يستخدمها حتى يتخطى حاجز الصعوبة المتعدد الأسباب؟!
لقد مرت سنة وبعض السنة على خلع ميشال عون واستعادة معظم مرافق الدولة مرافئها ومؤسساتها، لكن واردات الخزينة لم تتحسن بشكل ملموس ومؤثر وما زالت في حدود الإيفاء بخدمات الدين العام… المتوالد كالأرانب، باستمرار!
*هل حاسب هذا الحكم مقصرأً وأقال مرتشياً وطرد مديراً يقبض رواتبه وتعويضاته (بما فيها بدل الانتقال) وهو خارج لبنان؟!
*هل أنجز المصالحة الوطنية العتيدة، بما يمكنه من استنهاض همة المواطنين وتأمين التفافهم حول دولتهم في معركة إعادة التأسيس بل الدفاع عن وجودها؟!
*هل احترم شعبه فعاد إليه يستفتيه ويساله رأيه عبر انتخابات نيابية تجدد الدم في شرايين مؤسسات الحكم جميعاً، من المجلس النيابي الممدد لذاته (والمعين) إلى الحكومة التي يطول عمرها استثنائياً لأسباب لا تتصل بكفاءتها أو بحسن سيرتها أو بوضوح رؤيتها أو سلامة خطتها لإنقاذ البلاد، بل “لتعذر” الاتيان ببديل منها مع الحفاظ على التوازن الحش القائم في توزيع الكعكة على ملوك الطوائف والمذاهب وأتباعهم المخلصي!
*هل أطلق هذا الحكم سراح الديموقراطية المعتقلة في كهوف الطوائف والمذاهب، أم أنه حجر عليها حين أعاد إلى أبطال الحرب اعتبارهم وبرأهم من كل ما ارتكبوه من جرائم، مسقطاً من أجل سواد عيونهم القضاء ومعايير العدالة وإمكان محاسبة مخطئ أو مرتكب أو متجاوز أو مرتش وصولاً إلى من صادر الشرعية والحكم وعائدات الخزينة؟!
ثم تتوالد أسئلة من طبيعة أخرى:
** هل كانت الولايات المتحدة الأميركية وراء القرار الخاطئ الشهير الذي اتخذ في غفلة عين بزيادة رواتب المعلمين الرسميين، والذي اتخذ منم بعد قاعدة لإقرار سلسلة من الزيادات الهمايونية على رواتب الموظفين الذين لا يعملون، من دون أن ربط لهذه الزيادة الفاحشة بالإنتاج او بالدوام أو حتى بمجرد الحضور؟!
** وهل ضللت أجهزة المخابرات الأميركية الحكم بينما وزارة المال تعد الموازنة، مفصلة على مقاس السادة الوزراء، فأخفت عنها أرقاماً ودست عليها أرقاماً أخرى حتى أتت الموازنة غير متوازنة وتستوجب إعادة النظر والتدقيق مرة بالمشاورات النيابية، ومرة ثانية بجلسات استجواب مباشرة للوزير المختص يقوم بها رئيس الحكومة بحضور وزير المال؟!
** ثم… ما هي الأكلاف أو النفقات التي ستختصر من موازنة يقوم عمودها الفقري على الاستدانة (وطبع مزيد من أوراق النقد)، وتذهب وارداتها بمجملها لخدمة الدين في حين يتفاقم العجز ألف مليار ليرة هذه السنة؟!
إن الرواتب والأجور لا تمس، ويدخل في ذلك مبلغ الستماية مليار التي طرأت كزيادات على الرواتب والتعويضات،
إذن فلسوف يتركز “عصر النفقات” في تعديل ما هو مخصص لبعض المشروعات الحيوية (مياه، كهرباء، هاتف، طرقات، استشفاء الخ) ولأغراض الصيانة واللوازم وما إليها.
أي أن الخطأ سيبقى ويتفاقم، أما الضروري والحيوي فلسوف يشطب… من أجل التخفيف من هول الكارثة الاقتصادية – الاجتماعية التي تتهدد لبنان في وجوده ذاته.
كيف يقود البلاد حكم يتمتع بهذه الموهبة الخارقة في الارتجال؟!
أو ربما كان السؤال: إلى أين يمكن أن يقود البلاد حكم كهذا ينفق على وزيره أكثر مما ينفق على وزارته، ويعطي “الرئيس” فيه أكثر مما يعطي المؤسسة، وينفق على هؤلاء مجتمعين أكثر مما ينفق على المدينة الخربة وعلى الأيجال المضيعة أعمارها في البطالة والعوز وافتقاد المثل الأعلى؟!
كيف يقود البلاد حكم يتفنن في ابتكار الأزمات لنفسه، فمرة هي بين رئيسين والثالث مصالح، ومرة أخرى هي بين الرؤساء الثلاثة، ومرة ثالثة هي بين الرئاسات والوزارات، ومرة رابعة هي بين الحكومة والمجلس النيابي، ومرة خامسة هي داخل مجلس الوزراء الذي لم يقدم نفسه أبداً إلى الناس كمؤسسة قادرة وذات بصيرة ولا كقيادة سياسية للبلاد؟!
ومرة أخرى: لا مخرج غير الانتخابات النيابية، بأسرع ما يمكن، وبمن حضر،
فأية نتيجة محتملة لهذه الانتخابات، ومهما بلغت الطعون بنزاهتها تظل أفضل مما نحن فيه،
هل من مواطن واحد يثق بنزاهة الحكم القائم؟!
وهل يمكن أن يصمد هذا الحكم لمقارنة بالنزاهة بينه وبين أي حكم يمكن أن تحمله الانتخابات العتيدة؟!
إن البلاد بحاجة إلى هواء لتتنفس.
إنها تكاد تختنق في أزماتها التي لا مخرج منها في ظل الحكم القائم بالقيود المفروضة عليه أو التي فرضها على نفسه.
والانتخابات جرعة أوكسجين يمكن أن تنعش الرئة المهددة بأن يعطبها الهواء الفاسد المستشري الآن.
والانتخابات هي المدخل إلى توازن سياسي يمكن أن يتصدى لمهمة جليلة كتحقيق توازن اقتصادي – اجتماعي، سيعجز عنه هذا الحكم مهما فعل.
الانتخابات هي وعد بالتوازن النفسي.
وهذا أكثر ما يحتاجه المواطن، لاسيما بعد التجربة البائسة مع هذا الحكم الذي ضرب الرقم القياسي في الابتعاد عن التوازن والموازنة والميزانية وكل ما له علاقة بالميزان… بوصفه رمزاً للإنصاف والعدالة وإحقاق الحق!
وأخيراً فإن الانتخابات هي الإعلان الرسمي والفعلي بانتهاء الحرب في لبنان، المستمرة – بشكل ما – عبر هذا الحكم وبفضله!

Exit mobile version