يحبس العرب أنفاسهم، ربما أكثر من الإسرائيليين، في انتظار ظهور نتائج انتخابات الكنيست المقررة غداً،
لكأنهم هم أيضاً منقسمون إلى حد التعادل بين “تجمع الليكود” و”حزب العمل”، ولكأن “المعركة” ستقرر المستقبل السياسي لكل طرف منهم،
ولكأن “الديموقراطية الإسرائيلية” هي معقد الرجاء وخشبة الخلاص بالنسبة لأمنهم وخبزهم وهل الأرض أرضهم أم لا وهل هم باقون فوقها أم مجرد عابرين يرحلون عنها بمجرد وصول من يحمل بطاقة “شعب الله المختار” و”الطابو” الإلهي بولايته على “أرض الميعاد”!
الطريف إننا “نتباهى” إلى حد الشجار، ونتناوع إلى حد تبادل الاتهامام بالخيانة، حول النتائج المحتملة لانتخابات “الأعداء” ودلالاتها وتأثيراتها علينا، بقدر كبير من الرضا والاستسلام…
“ديموقراطيتهم” تقرر مصائرنا،
و”ديموقراطيتهم” حق مشروع وبداهة خارج النقاش، والطعن في نزاهتها أو التشكيك باحتمال التزوير فيها افتراء يرفضه “الفكر” السياسي العربي الذي ترى على أن الانتخاب (في الداخل) بدعة، ونزاهة الحكم وحيدته وترفعه عن مخاصمة شعبه (كله أو بعضه) كل ذلك من الأحلام المحرمة.
إذن فعرب “التطرف” ليكوديون، بطلهم إسحق شامير، ومنطقهم يقوم على أن بطل الحرب هو القادر على منح السلام، وإن “القادة التاريخيين” هم وحدهم المؤهلون لإنجاز مهمات مراحل الانتقال وكسر الحواجز النفسية وعقد صلح الشجعان!! (والشجعان في الأخذ هم دائماً في الضفة الأخرى، أما بين ظهرانينا فيوجد فقط الشجعان في العطاء)!!
وعرب “الاعتدال” موالون لـ “حزب الله”، ورجلهم هو – الآن – إسحق رابين، الذي طالما انتصر عليهم بحزبه وبجيشه في الحروب السابقة…
ومع رابين وحزب العمل ذي المنحى “الاشتراكي” يتخفف “المحافظون العرب” من عدائهم الغريزي للاشتراكية ويهجرون بتأييدهم له متكئين على الضمانة الأميركية المضمرة: أليس هذا الجنرال السابق رجل واشنطن المقبل في دولة بني صهيون؟! وهل يعقل أن يؤيد الأميركيون اشتراكياً؟! إنها مجرد لافتة لاستمالة العمال والفقراء في مجتمع يشكل هؤلاء أغلبيته الساحقة فلا ضرر إذن ولا ضرار من اشتراكيته المدعاة!
من السذاجة أن تسأل مثلاً: – وشاهير؟! هل هو معاد للأميركيين؟
على إنك قد تجد من هو أعظم سذاجة في جوابه فيقول، مثلاً: – طبعاً أنسيت أن شامير وطني متشدد؟! إنه يريد كل أرض الميعاد، ولن يتنازل عن شبر واحد من الأرض العربية المحتلة، وهو يعمل لإقامة إسرائيل الكبرى من الفرلاات إلى النيل!!
وطبيعي أن يغلب الانبهار بهذا “البطل القومي” على السذاجة لدى هذين المواطنين العربيين المسحوقين بذل الهزيمة والقمع واللذين لم يعرفا أبدأ تجربة الانتخابات (والديموقراطية!!) ولا تذوقا طعم النصر، ثم إنهما يشهدان تقلصاً مستمراً في مساحة الوطن العربي الكبير وكذلك في مساحة “القطر” العربي الصغير، الذي غالباً ما يتهدده خطر الانقسام والتفكك إلى كانتونات بحجم الطوائف أو المذاهب أو قادة الحروب الأهلية.
كذلك فمن الطبيعي أن يغلب العجب على السذاجة لدى هذين المواطنين العلاربيين: لماذا إذن تعتبر الوطنية لدى العرب “تطرفاً” قد يصل إلى مستوى “الإرهاب”، ثم يمتدح التشدد لدى القائد الإسرائيلي ويسفه كل من يقول كلاماً “قوياً” من العرب؟! لماذا نتهيب العامل لأخذ أو اغتصاب أرض غيثره بالقوة، ونخشى على أنفسنا من القائل بتحرير أرضه (العربية) المغتصبة أو المهددة بالاغتصاب؟!
… ولماذا يتبارى قادتنا من “عرب الأميركان” في التنازل عن حقوق أمتهم وأوطانهم، بينما يصارع “الإسرائيليون الأميركان” واشنطن ذاتها، و”سيد الكون” فيها لكي يستمروا في اجتياح الأراضي العربية والسموات العربية والمياه العربية، ولا يخضعون لإرادتها ولا ينفذون تعليماتها بغير نقاش؟!
ألا يعني هذا إن “الوطنية” هي خارج الرضا الأميركي، وخارج المصالح الأميركية، فكيف يكون وطنيين أولئك المتأمركون من المسؤولين العرب إلى حد التفريط بأرضهم وإنسانهم وتاريخهم ومستقبل الأجيال الآتية؟!
وكيف يمكن أن يحترم المسؤول الأميركي “قائداً عربياً” مستعداً لأن يشتري سلامته الشخصية وبقاءه على عرشه بمصير أمته جميعاً؟!
وكيف هذا القائد الذي لم يأبه يوماً لرأي “شعبه”، ولا هو وصل إلى سدة الحكم بالانتخاب، ولا هو سيتركه إلا بفعل رحمة الموت، سيمكنه الانتصار على إسحق شامير أو إسحق رابين أو أرييل شارون وكل منهم يقدم سجل إنجازاته لـ “شعبه” ثم ينتظر بقلق حكمه (له أو عليه)، مقدماً له البرهان تلو البرهان على وطنيته من لحم العرب، في فلسطين وفي لبنان، ومن كرامتهم المسفوحة، في كل مكان، ومن مصادر ثرواتهم الطبيعية (الماء كما النفط) الذي داءه بها البنادرة على أطباق من فضة في المؤتمر المتعدد الأطراف؟!
موجعة هي المقارنات:
فالعرب الذين لم يعرفوا معنى الانتخابات والديموقراطية وسائر حقوق الإنسان ينتظرون الآن بوجل أن يتقرر مصيرهم في معركتين انتخابيتين تجريان خارج أرضهم:
*الأولى لدى عدوهم الإسرائيلي، وفيها قد تتبلور “طريقة” سحقهم: بالطائرة أم بالدبابة؟! وعلى مدى خمس سنوات أو فوراً؟!
*والثانية لدى “سيدهم” الأميركي وفيها قد يتحدد مدى المسافة الفاصلة بين واشنطن وإسرائيل، في المصالح… ولكنهم، هم العرب، بين المصالح وليس بين أطراف الصراع، لا رأي لهم ولا قدرة على التأثير في مسار هذا الصراع الذي هم ساحته وموضوعه وهدفه الأخير.
في هذا الأمر فقط امتنعوا عن تقليد “السيد” و”العدو”، بينما هم لا يفعلون في أمورهم الأخرى إلا تقليد هذا أو ذاك والاقتباس منه.
… لكن الممارسة تأتي بطبيعة الحال كاريكاتورية مضحكة كالبكاء!
على أن الانتخابات النيابية في لبنان ستكون أفضل رد وبأفصح لسان على الادعاءات الإسرائيلية (واحة الديموقراطية في الشرق الأوسط)،
فالانتخابات عندنا ستجري للاسبب معلوم إلا الغيمان بالديموقراطية!
وهي ستجري لتبديل الدم الفاسد الذي ورثناه عن نظام ما قبل الحرب الأهلية واتفاق الطائف بدم وأعظم فساداً وطائفية لأنه يحمل كل جراثيم الحرب ونتائجها (ومنا أبطالها!!)
وهي ستجري حسب المقاس والمزاج، وفيها جاهز وتفصيل: هنا على أساس المحافظة، وهناك على أساس القضاء، وهنالك على أساس محافظة القضاء أو قضاء المحافظة، أما النتائج فمتروكة للقضاء والقدر!
ثم إنها ستجري لمليون سبب ليس بينها سبب واحد محلي،
الطريف أن المسؤولين اللبنانيين يتصرفون حيالها بحيرة قاتلة وكأنها ستجري على أرض غيرهم وبأصوات ناخبين من خارج شعبهم،
الأطرف إنها ستجري على أساس لوائح شطب يعترف من أعدها بأنها – وإن كانت رسمية – إلا أنها غير صحيحة!
.. ويعترف بأنها تتضمن أسماء جميع الأموات، حكماً، ولكنها بالقطع لا تتضمن أسماء الأحياء ممن بلغوا سن الاقتراع،
… ويعترف بأن “إخراج القيد” لا يصح اعتماده وثيقة، فهو قابل للتزوير في أي مكان وأي زمان ولأي كان، وثمة مئات الآلاف من النسخ المزورة، الممهورة بالأختام الرسمية والتواقيع والقابلة لأن تستخدم من أي طرف (خارجي) كان، كما من أي هاو بممارسة حقه الانتخابي خمس مرات أو عشر أو عشرين مرة وفي أقلام متعددة ربما شملت معظم الدوائر الانتخابية في السهل والساحل والجبل الأشم!
هل كان ضرورياً أن نقدم عبر هذه المهزلة اللبنانية كل هذه التزكية للديموقراطية لدى العدو؟!
إن التعيين في هكذا حال يبدو “أشرف” من الانتخاب!!
حتى المعين نعرف له “أهلاً” ونسباً ما،
أما الانتخابات بالتعيين (تعيين الدائرة، وتعيين اللائحة، وتعيين الخصم الخ) فلن تأتي إلا بأسوأ من في هذا المجلس القائم وأسوأ من تبقى خارجه.
… وربما هنا مكمن السر: ربما أدى الإلحاح على هكذا انتخاب إلى إضفاء مشروعية كاملة على هذا المجلس (وهذا الحكم) المطعون بعد في شرعيته!
ملاحظة أخيرة:
أعلنت الولايات المتحدة الأميركية رسمياً، وبلسان قضائها، إن العالم بأجمعه وبشعوبه جميعاً مجرد رهائن لديها.
فالحكم الذي أصدرته المحكمة الفيدرالية العليا مجيزاً لرجال المخابرات الأميركية اختطاف أي مواطن في أي بلد من بلدان العالم، هو أشبه بالبيانات التي كانت تصدرها “المنظمات الإرهابية” معلنة فيها احتجاز فلان أو إعلان من الرهائن،
مع فوارق عدة أبرزها أن تلك منظمات “إرهابية” أو “عشائر” متخلفة تطالب بثأرها ممن اعتدى عليها،
اليوم ثبت أن الولايات المتحدة الأميركية عشيرة عظمى، ومنظمة إرهابية عظمى، لكنها بالقطع ليست “دولة”، فكيف بأن تكون دولة عظمى؟!