إذا تهاوت الرابطة القومية بين العرب، وانتفت القضية الجامعة، وتهاوى الشعار الوحدوي المقدس، وصارت واشنطن أقرب من دمشق أو إلى القاهرة إلاى أقطار الخليخ، مثلاً، بات من حق طهران أن تعتبر نفسها “الأولى” بالرعاية بحق الجيرة والشفعة والمصالح المتداخلة والمتشابكة والمعقدة جداً جداً.
وإذا ما اندفع عرب الخليج نحو الصلح مع إسرائيل بغير دعوة، مُسقطين القاطعة وسائر الحواجز التي فرضها العدواء القومي والحضاري والتاريخي الخ، ومُسقطين أيضاً حقوق أخوانهم عرب دول الطوق (سابقاً) وبالذات منهم حقوق الفلسطينيين في أرضهم، بات منطقياً أن ينكر مسؤول غيراني كمحمد علي بشارتي على مصر وسوريا أي دور استراتيجي في الخليج، مستنداً إلى الذريعة التي ابتدعها حكام تلك المنطقة حين ميزوا بين أنفسهم “كخليجيين” وبين سائر العرب (أخوانهم سابقاً).
وبغض النظر عن وقع مثل هذا المنطق الإيراني على العرب جميعاً، وهل يشكل استفزازاً وتجاوزاً أو نقصاً في اللباقة أو مبالغة في الصراحة، فهو ما كان ليقال لو أن حكام الجزيرة والخليج، عموماً، استمروا على تمسكهم بعروبتهم وعلى التزامهم بموجبات المعركة القومية مهما تعاظمت مآخذهم على بعض أخوانهم العرب ومنهم على وجد التحديد الفلسطينيون.
ففلسطين قضية قومية، بداهة، والتفريط بها لا يؤمن الحماية لما عداها من الأرض العربية، بدليل أن خطر الاجتياح الإسرائيلي قد بلغ الآن أقصى نقطة في هذه الأرض… ويتأثير الذعر من احتمالاته اندفع حكام الخليج إلى حيث لم يكونوا يريدون ولا كان مفروضاً أن يكونوا: إلى طاولة المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، وإلى مسلسل من التنازلات يعطيها ما لا تستطيع أن تناله حرباً، وما لا يجوز أن يدفعه العرب ولو كانوا مهزومين.
إذا ما ابتعد أو أبعد العرب لأي سبب عن الخليج باتت إيران هي الأقرب، خصوصاً إذا ما كانت المقارنة مع إسرائيل، أو حتى مع الولايات المتحدة الأميركية وسائر الغرب.
وطبيعي أن هذا يفتح باب المخاطر على مصراعيه، ليس فقط على أقطار الجزيرة والخليج، بل على دنيا العرب من موريتانيا إلى اليمن، “فمن ثقل عليه شقيقه أو صديقه خف عليه عدوه”، كما يقول أستاذنا الجاحظ.
وها هو الانقسام العربي يفعل فعله حتى على مسار المفاوضات التي يخوض العرب غمارها مكرهين في واشنطن.
فالإسرائيليون يفرضون شروطهم المذلة واحداً بعد الآخر، مفترضين إنه لن يكون أمام العرب المنقسمين والمختلفين والمتقاطعين ، إلا الإذعان،
وهم يبتزون العرب كل لحظة: في الموعد، في المكان، في الإجراءات الشكلية، قبل الوصول إلى جدول الأعمال،
وهم يجبرون “أصدقاء واشنطن” من العرب على استنزاف هذه الصداقة في ما لا طائل تحته، تاركين لإسرائيل أن تحصد الجوائز الذهبية بعد أن تضجر الإدارة الاميركية من هؤلاء العجزة الملحاحين والذين لا يخيفون في الحرب ولا ينفعون في السلم، وإنما هم أشبه بالأطفال المفسدين يبكون إذا لم توفر لهم الألعاب الغالية التي لم يدفعوا ثمنها!
والفاتورة ثقيلة جداً بحيث لا يتحملها أحد،
إن عرب الخليج دفعوا ويدفعون للأجنبي، وسيدفعون أكثر، للولايات المتحدة وحلفائها، ولإسرائيل أساساً، ولإيران بطبيعة الحال، وللفئات الأقل ارتباطاً بترابها الوطني،
وعرب “الطوق” دفعوا ويدفعون للعدو الإسرائيلي، وسيدفعون أكثر، له وللولايات المتحدة الأميركية ومن ثم للشرائح أو الطوائف أو الأقل ارتباطاً بالأرض والتاريخ والمصير المشترك الخ.
وليس ربحاً لأي عربي أن يتشفى بأن “أخاه” العربي الآخر قد خسر أكثر منه،
إن تعميم الخسارة لن يقود إلا إلى مزيد من الهزائم التي ستذهب مع الأرض والكرامة بالنفط وعوائده والأرصدة المصادرة في عواصم الغرب الصديق!
وغباء مطلق أن يستمر العرب في التباعد بوهم كسب الرضا الأميركي وطلب الأمان من إسرائيل، في حين إن هذا التباعد هو بذاته يوفر مساحة إضافة لتلاقي الإسرائيليين مع كل الطامعين في أرض العرب وخيراتهم.
إن العرب، في مختلف ديارهم، ينزفون،
وإسرائيل تربح من الجميع وعلى الجميع،
وواشنطن تأخذ ولا تعطي، شأنها شأن أي جبار عتي يحتاجه الآخرون ولا يحتاج نظرياً – إلى أحد!
وها هي الجولة الجديدة من المفاوضات تبدأ في ظروف أتعس من سابقتيها،
وها هي الولايات المتحدة تنسحب من وعودها وتعهداتها تاركة لإسرائيل أن تقتطع من اللحم العربي ما يلبي شهيتها المفتوحة،
وها هي إيران تبدأ في تعديل لهجتها، في ضوء التحولات التي تغير الثوابت في الكون، عموماً، وفي ضوء الضعف المستشري في الجسد العربي النازف والذي قد تراه مصدراً للخطر عليها.
فليستعد العرب لدفع الفواتير المتعددة والمنهكة… والأغنى سيدفع أكثر.