… إذن هي معركة إنهاء عهد انقلابي، تمثل باستيلاء حزب الكتائب عنوة على سدة السلطة في لبنان، أكثر مما هي “معركة” انتخاب رئيس جديد للجمهورية يخلف رئيساً انتهت مدة ولايته الدستورية.
ولو إن حزب الكتائب وصل إلى قمة السلطة بالوسائل الديموقراطية المشروعة،
أي لو إنه استفاد من كل ما يتيحه قانون الصراع السياسي بين القوى والتيارات والاتجاهات المختلفة داخل البلاد.
ولو إنه نسج شبكة من التحالفات مع المحيط العربي واستقوى بها فغلب،
ولو إنه تجنب “المحظور” فلم يرتكب الخطيئة المميتة ولم يمد يده إلى إسرائيل، متجاوزاً كل شرعية وكل حد،
لولا ذلك كله لما كان على الكتائب حرج، ولما كانت تحاسب بمثل القسوة التي تحاسب فيها هذه الأيام، فيصبح أول شرط من شروط الأهلية لدى أي مرشح للرئاسة ألا يكون حزبياً، أي ألا يكون على وجه التحديد كتائبياً.
لقد اغتصب حزب الكتائب السلطة وقفز إليها من على ظهر الدبابة الإسرائيلية بينما كانت هذه الدبابة تقهر إرادة شعبه وأمته وتسحق ما يمت بصلة إلى الكرامة والعزة والعنفوان والاباء ناهيك بالسيادة والاستقلال والوحدة الوطنية.
ومن حق اللبنانيين أن يحاسبوا حزب الكتائب، وأن يعاقبوا الذين ورطوه في انتهاج هذه السياسة الخرقاء التي خلخلت أساس التعاقد الوطني في لبنان وتسببت من ثم في الكوارث التي دمرت من البلاد بعد غزو العام 1982 أكثر بما لا يقاس مما تم تدميره خلال السنوات السبع العجاف التي هلت على اللبنانيين (والعرب) منذ ذلك الأحد الأسود في 13 نيسان 1975.
لكن الذي يحصل هذه الأيام يأتي مغايراً تماماً للمنطق الوطني العام،
فالكتائبيون، ممثلون بشخص الرئيس أمين الجميل ومن معه وبـ “القوات اللبنانية”، يحاولون أن يفرضوا على اللبنانيين (والعرب) من يرتضوهم هم رئيساً للجمهورية،
لقد فرضوا الرئيس الكتائبي الأول بقوة القهر المستندة إلى دبابة العدو الإسرائيلي،
وهم الآن يحاولون أن يفرضوا رئيساً يختارونه هم بقوة القهر المستندة إلى البنادق المشرعة لتعطيل الحد الأدنى من الديموقراطية،
فليس بين المرشحين لرئاسة الجمهورية شيوعي ولا قومي عربي ولا بعثي ولا قومي سوري ولا حزبي من أي نوع،
وليس بينهم من ينكر على حزب الكتائب حقه في الوجود، أو حقه في ممارسة هذا الوجود، بما في ذلك حقه في الوصول إلى السلطة، وقيادة البلاد بالوسائل الأساليب الديموقراطية التي ينص عليها الدستور وتحميها القوانين المرعية الاجراء.
لكن الكتائبيين الذين وصلوا إلى قمة السلطة خلسة وبالاستناد إلى قوة قهر خارجية، يحاولون اليوم أن يكشولا قوة قهر داخلية فيجهرون بوضع “الفيتو” على هذا أو ذاك من المرشحين،
أي إن الكتائبيين الذين تذرعوا ذات يوم بحكاية “العزل” التي واجهتهم بها قوى سياسية مناهضة لخطهم لكي يذهبوا فيلتحقوا بالإسرائيلي، يحاولون اليوم أن يفرضوا عزلاً على بعض المرشحين الفعليين أو المحتملين ممن لا يقولون قولهم ولا يرون رأيهم،
بل إنهم يفرضون هذا العزل حتى من قبل أن يعلن المعنيون إنهم مرشحون لمنصب الرئاسة،
ومؤسف إن رئيس الجمهورية قد دخل طرفاً، بحكم حزبيته، في هذا التصرف الذي لا يقره عرف أو قانون أو دستور، فكيف إذا ما صدر عن المؤتمن على الدستور والقانون والعرف والتماسك الوطني في بلاد تنهشها الانقسامات؟!
وحق المعارضة، أو الاعتراض أو الرفض مقدس ومقنن في الدستور كما في القانون، ولكن له أصوله واشكال التعبير المألوفة والمقبولة، وليس بينها بأي حال استخدام السلاح أو تسخير الموقع الأول في السلطة لهذا الغرض المجافي للديموقراطية إلى حد تمزيقها وإلغائها تماماًز
فالتهديد بتعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، بالقوة، لا يشكل خرقاً للدستور والقوانين والأعراف، وتدميراً للديموقراطية فحسب، بل هو قبل ذلك يؤكد إن حزب الكتائب الذي صادر الحياة السياسية واغتصب السلطة في السنوات الست الماضية، يريد مصادرة المستقبل أيضاًز
إنه يريد حماية ماضيه بشطب مستقبل اللبنانيين جميعاً،
إنه يريد حماية “انقلابه” بكل المنجزات التي تحققت في ظله الوارف!
وهو يحاول أن يفيد من البطالة السياسية التي عاشتها البلاد وما زالت تعيشها حتى الآن نتيجة الاجتثاث الدؤوب والمنهجي للقوى السياسية، بمختلف أشكالها التنظيمية وصولاً إلى النقابات والروابط والجمعيات الخيرية… وهو “إنجاز” شاركت في تحقيقه إلى جانب حزب الكتائب قوى وظروف متعددة، بعضها داخلي والبعض الآخر جاءنا من الخارج،
وليس من قبيل المصادفة إننا نصل إلى موعد انتخابات الرئاسة وليس في البلاد تكتلات وتحالفات وجبهات ذات برامج واضحة يحملها مرشحون بالذات ويتنافسون بها للحصول على التأييد الشعبي قبل أصوات السادة النواب،
بل ليس من قبيل المصادفة أن يكون مجلس النواب ذاته أبأس الحائرين وهو يواجه “الاستحقاق الدستوري”، فيتناثرأعضاؤه ويتوزعون في غياهب الضياع لا يعرفون لمن يعطون أصواتهم وما هو المعيار في تفضيل هذا المرشح على الآخرين؟!
ذلك إن الحزبية الفئوية لم تلغ الحكم وحده، بل هي ألغت معه حين ألغته المعارضة أيضاً،
فلبنان اليوم بلا حلم، وبلا معارضة في آن،
فالحكم أحكام والمعارضة معارضات،
ولذا فاللعبة الديموقراطية مشلولة،
فإذا أضيف إلى الشلل التهديد بالتعطيل تكاملت الصورة لتعطي نتيجة محددة: أما التمديد للحكم الكتائبي، ولو بقوة الأمر الواقع التي تستولد الفراغ الدستوري، وأما التسليم بمجيء رئيس عاجز ومعاق لا يملك من أمر الحكم شيئاً لأنه ولد مشوهاً ومطعوناً في شرعيته من قبل أن يستنم السدة!
إن “الانقلاب” يحاول أن يجهض العهد الجديد،
إنه يحاول أن يحكم بالإعدام سلفاً على الرئيس المنتخب،
إنه يريد أن يصور نفسه المصدر الوحيد للسلطة: يقول لهذا كن حاكماً فيكون، ويمنع ذاك من الوصول فلا يصل… حتى إلى بيته!
… ثم يصدرعن الولايات المتحدة الأميركية ما يفيد بأنها تتبنى “الفيتو” المشترك الذي وضعه الحلف المؤقت والاضطراري بين الرئيس الجميل و”القوات اللبنانية” ضد نفر من المرشحين الجديين!
وهكذا تؤكد واشنطن بهذا الابتزاز الرخيص صدق إيمانها بالنظام الديموقراطي البرلماني، وإخلاصها في إنقاذ لبنان!
لكن ابتزاز واشنطن متعدد الوجوه،
وبين تلك الوجوه أن تسمح لنا بالاختياربين مرشح أميركي ومرشح أميركيآخر،
وذلك حديث آخر، ستكون لنا إليه عودة…