كالمخدرة، كالجريح يستفيق من تأثير البنج ويستعيد تدريجياً علاقته بالأشياء، بالحياة، هكذا تنسحب “الأميرة” من الكابوس وتعود إلى ذاتها،
ببطء، بحذر،بشيء من التوجس والخوف من مواجهة الواقع المفجع، تتلمس أوصالها، تتفقد معالمها، تستذكر أحياءها، أبناءها، بحرها وحيث كانت غابة الصنوبر، ثم تلك الأمكنة التي اكتسبت وأكسبت المدينة سمعة عالمية لأنها كانت ملتقى ومنتدى ومكتبة أصحاب القرار وصانعي الأحداث في واحدة من أهم مناطق الدنيا وأخطرها.
تكاد لا تصدق، بعد ، إن ليل الرعب الطويل قد انتهى،
وتكاد لا تصدق إن الذين أسلمتهم قيادها قد ضلوا وأضاعوا الطريق وانحرفوا فهموا بنحر الأميرة، وكادوا يقدمون على الانتحار الجماعي مساقين بحمى الدم والغرائز الجاهلية.
تنظر بيروت إلى ذاتها فتكاد تنكر ذاتها:
لقد كانت المنبر والراية، الصوت والصدى، الفكرة والأغنية، الشارع والجمهور للقضية القومية، بمختلف تجلياتها، ولمطالب المظلومين والمحرومين من أوطانهم وفي أوطانهم بمختلف شعاراتها وأشكال التعبير عنها.
كانت عاصمة السياسة والعمل السياسي في دنيا العرب،
لكن هذا الذي يسوّد الجدران ويشوه مداخل العمارات ويسد مداخل الأحياء ويشوش أذهان الصبية والفتية والبنات الطامحات إلى توكيد جدارتهن والفوز بقصب السبق على أخوتهن، في العلم كما في العمل،
لكن هذا كله قد أخرج بيروت من السياسة والعمل السياسي وأدخلها، في كهف لا يدخله شعاع شمس ولا نسمة هواء ندي، وحجر على الفكر والرأي والمعتقد وحق الاجتهاد، حتى صارت الهوية السياسية سبباً وتبريراً للقتل وأحكام الإعدام والمطاردة المستمرة.
ولعل بيروت، تفتقد وهي تنسلُّ من كهف الرعب، شارعها الوطني والقومي بما هو تعبير مباشر عن العمل السياسي ذي الأفق الوطني – القومي – التقدمي،
ولعل أخطر جراح بيروت تمثلت في محاولة تعقيمها ضد السياسة والسياسيين والعمل السياسي…
ومن أسف إن سطورة الميليشيات قد بلغت حد منع قياداتها ومؤسسيها ومراجعها الأصلية (أي الأحزاب والتنظيمات والحركات الجماهيرية) من ممارسة السياسة والنضال الشعبي بتعبيراته المعروفة والمألوفة.
حتى التحالف بين الأطراف المعلن تحالفها ظل، عملياً، بلا تعبير سياسي محدد، أي بلا مشروع سياسي واضح ومعلن قاعدة للتحالف ومنطلقاً للنضال ومركز استقطاب للجماهير وتأطير جهدها لإنجاح مشروعها العتيد،
وبين آمال بيروت، الآن، أن يستعيد سياسيوها جميعاً رشدهم وعافيتهم، سواء أكانوا قادة أحزاب أم قادة رأي أم ممثلي اتجاهات وتيارات وأنشطة ثقافية واجتماعية…
بل إن بيروت حريصة على أولئك الذين جرفهم سيل الفتنة وأوهام الهيمنة والتفرد باحتكار القرار في بيروت ولبنان، وتنتظر أن يعودوا إلى استيعاب حقائق الحياة وواقع البلاد فيهجروا السلاح والتنظيم المسلح إلى النضال بالبرنامج السياسي، ويخرجوا من قوقعاتهم ومن دوائر النفاق والتحريض والدس اليومي المستمر ضد الآخرين، قوى وهيئات وأشخاصاً، ليواجهوا الشمس والجماهير وهمومها التي بلا حصر.
وبيروت المعطلة عن السياسة هي بيروت المخربة جامعاتها ومدارسها، المطاردة والمهجرة مراكز البحث والعلم منها، الهاربة السفارات ومكاتب الشركات والمؤسسات ذات الصفة الدولية منها إلى قبرص وأثينا وباريس وغيرها من العواصم البعيدة.
فيوم كانت بيروت الشارع القومي وراية النضال الوطني كانت جامعاتها مصانة بأهداب العين، بل لعل تلك الجامعات، الأجنبية والعربية، كانت بعض الاشعاع والتوجيه والتحريض على العمل السياسي،
بمعنى آخر: لا السياسة، ولا العمل السياسي ولا الأحزاب أو التنظيمات الجماهيرية هي تلك التي تلغي أو تضرب أو تنتهك حرمة الجامعات ومراكز العلم، بل لعلها على العكس تماماً تضيف إلى قيمتها الأصلية قيمة وطنية تصير بين أسباب حمايتها المعنوية والعملية.
وبهذا المعنى فإن بيروت تأمل، وقد توطد الأمن وبدأت تستعيد عافيتها، أن تستعيدا لاثنتين معاً: السياسة والجامعات، الساسة وقادة الأحزاب والدكاترة والأساتذة والمدرسين، السفارات والسفراء والمراسلين الأجانب والصحافيين عموماً والأطباء والمهندسين والمحامين وذوي الكفاءات الذين ذهبوا إلى البعيد وانكفأوا إلى حيث لا يطالهم الرصاص الطائش والقصف العشوائي.
أمس، بدأت بيروت تخرج من خدرها، وتستعيد علاقتها بالأشياء والحياة.
وأمس عاد البحر إلى المدينة.
وعادت الشمس،
وعادت أصص الورد تحتل مواقعها على الشرفات وترش عطرها ليصبح الهواء منعشاً يساعد الناس على استعادة وعيهم بأنفسهم، وحبهم للأميرة وعشقهم للحياة،
وعادت الابتساطات تطل، وجلة، عبر العيون التي كان يسكنها الرعب والقلق على المصير،
عادت بيروت أميرة عربية، وبيروت بسياستها كما بأمنها، بثقافتها كما باقتصادها، لا تكون إلا عربية.
وهذا بين معاني إن الجيش العربي السوري هو الذي يحمي الشمس والبحر والابتسامة، والرغيف والمدرسة والجامعة، الطمأنينة وهدأة البال والحلم، في بيروت العربية،
بل إن هذا الجيش المدخر للمهام القومية الجليلة إنما يحمي في بيروت، أيضاً، الحريات التي تميزت بها بيروت، عاصمة الكلمة والفكرة، عاصمة الثقافة العربية المعاصرة، عاصمة العمل السياسي والشعبي في الوطن العربي.
والآن جاء دورنا نحن لنعيد بيروت إلى صورتها الأولى،
فلنشمر عن الزنود ولننزل إلى الشارع لننظف بيروت ، بيوتها وعماراتها والمكاتب، الحارات والأحياء والطرقات والزواريب، مما علق بها من أدران الفتنة،
ولنغرس الورد والقرنفل والياسمين على كل شرفة وفي كل حديقة،
لنكن القدوة لأخوتنا هناك،
ولنهدم من جهتنا خطوط التماس التي ما رفعت إلا في وجوهنا، نحن الناس، وإلا كعنوان آخر من عنواين تعطيل العمل السياسي… عناوين اغتيال لبنان.