لشد ما هو فضاح ذلك البيان المرتبك والمهزوز الذي أصدرته “الحكومة العسكرية”، قبيل منتصف الليل، معلنة فيه قبولها الاضطراري بقرار مجلس جامعة الدول العربية حول الوضع في لبنانز
فالبيان الذي يقول مغمغماً بوقف النار يكشف غرض العماد ميشال عون من حرب الـ 45 يوماً التي أشعل خلالها النار بلبنان واللبنانيين فكادت تأتي عليه وعلى من تبقى منهم فيه.
والغرض، ببساطة، هو ، تأمين استمرار “الضابط الصغير” حيث هو، في القصر الجمهوري، بأي ثمن كان، وبأية صفة “عملية” لها شبهة من “الشرعية”، فهو “الرئيس الأول” فإن تعذر فهو “القائم مقام الرئيس”، فإن تعذر فهو “القائد” البديل عن الرئيس، فإن تعذر فهو الأمر الناهي في الدويلة، وريثاً لسمير جعجع في “حرب التحرير” لعلها تتيح له أن يكون “رئيس المسيحيين” والمفاوض باسمهم – وبقوة السلاح – مع سوريا وسائر العرب من أجل “النظام الجديد” في لبنان وموقعه فيه.
ومع إن البيان بوقف “النار “يلحس” البلاغ الرقم واحد الذي أعلن فيه العماد عون استيلاءه على السلطة والشرعية في “كل لبنان”، إلا أنه يجدد ضرب الحصار بالنار حول شروط العودة إلى الأوضاع الطبيعية في لبنان أي الاصلاح السياسي كمدخل لوفاق وطني يتجسد في انتخاب رئيس جديد للجمهورية وقيام حكومة قادرة وتمكين المجلس النيابي من استعادة دوره المعطل وإطلاق اللعبة السياسية من عقالها لتشكل بالصراع السلمي صورة لبنان الجديد.
فبيان “الضابط الصغير” يفك الحصار عن المرافئ، ولكنه يؤكد استمراره على الاصلاح السياسي، وكأنما الاصلاح أيضاً مصدر للإرهاب وتهريب المخدرات!!
وبهذا يبدو وكأن البيان يعلن وقف الحرب ضد سوريا (وسائر العرب والعالم) واستمرارها ضد اللبنانيين، في حين هو يجتهد لنفي هوية الاقتتال الداخلي في الماضي والحاضر والمستقبل.
فالعماد عون قرأ قرار الجامعة على مواجه، وبدلاً من أن يجد فيه إلغاء لشرعيته المنقوصة والمعترض عليها لبنانياً منذ يومه الأول، اعتبره “مهلة إضافية” لسلطته فوق الأرض اللبنانية بالـ 10452 كلم2، فقرر فتح مطار بيروت الدولي ابتداء من ظهر اليوم!
والعماد وجد في القرار العربي فرصة لطي شعاره الأثير في “التحرير” ضد الوجود السوري تحديداً، وهو شعار يعطل الحوار الداخلي وينفخ الريح في أشرعة المتطرفين ويحولها إلى حرب صليبية جديدة يذهب اللبنانيون، بالمسيحيين منهم والمسلمين ، وقوداً لها،
ولكنه بالمقابل “ربط النزاع” مع العرب جميعاً حين اعتبر إنهم خانوا مهمتهم في إنقاذ لبنان حين لم يقروا بشرعيته وبوحدانيته وبحقه النابع مباشرة من الشعب، بغير وسيط، في القيادة المطلقة باعتباره “القديس شربل، بل السيد المسيح، بل السيدة العذراء، بل القربان، بل الانجيل، بل الروح القدس” على حد ذلك “المنافق” الخاص الذي عينه العماد الشعب كله!
فأما قرار الجامعة، والذي اعتبره العماد “خطوة خجولة” كما اعتبر من قبل بيان النواب المسيحيين برعاية البطريرك الماروني في بكركي، فهو فوق ما توقع اللبنانيون وإن كان دون الحد الأدنى من أمنياتهم.
لقد قالت الجامعة، بلسان دولها مجتمعة، ومعها العالم، بوقف النار،
ومرجح ألا يجرؤ حتى أرعن مثل “الضابط الصغير”على تحدي هذا القرار العربي – الدولي، خصوصاً بعد النصيحة العلنية التي وجهها إليه حليفه الوحيد، رئيس وفد العراق، طارق عزيز.
لكن وقف النار ليس بالضرورة إعلان نهاية الحرب، بل غالباً ما كان سبباً للحرب التالية، إن هو لم يحصن بالقرار السياسي الجاد والمسؤول والملزم.
ومع الترحيب بهذا الإنجاز العربي الطيب، مع الأخذ بالاعتبار الدور الأميركي المؤثر فيه، فمن الضرورة بمكان ألا يعتبر السادة وزراء الخارجية العرب إنهم قد أدوا قسطهم للعلى فينامون، وينساقون مع العيد و”سبلة العيد” فينسون إن عليهم إنجاز ما بدأوه وإتباع الخطوة الأولى بخطوة ثانية على طريف الألف ميل.
لقد تعاطى مجلس الجامعة مع الوضع في لبنان، خلال اليومين الماضيين، كمشكلة أمنية، مرجئاً الحديث في الشأن السياسي إلى ما بعد تثبيت وقف إطلاق النار وسيادة الهدوء،
وبالمصادفة: إلى ما بعد تثبيت الإدارة الأميركية الجديدة، لاسيما المعني منها بالمنطقة عموماً ولبنان على وجه الخصوص،
وبالمصادفة أيضاً: إلى ما بعد القمة الاستثنائية التي دعا إليها ملك المغرب والتي يفترض أن تنعقد خلال شهر أو أربعين يوماً، لتشهد تثبيتاً لمجموعة من التحولات التي طرأت على القضية العربية عبر موضوعها الأبرز والأخطر، الصراع العربي – الإسرائيلي،
وفي انتظار ذلك يمكن الاكتفاء بالمراقبين العرب لوقف إطلا ق النار اللبنانية، وتأمين فك الحصار وفتح المعابر بين شطري العاصمة الممزقة على آخر ما نص عليه القرار العربي – الدولي “المضروب” في تونس بتاريخ الأمس،
لكن اللبنانيين ما زالوا ينتظرون تصدياً عربياً شجاعاً لجذور المسالة اللبنانية وأسبابها، بدلاً من قصر المعالجة على بعض نتائجها الأمنية،
الأمن أولاً ثم السياسة بعده،
لكن الأمن سياسة، فالحصار قرار سياسي واستهدافاته سياسية، إذ كان العماد عون يرى فيه المدخل لانتزاع إقرار بشرعيته كرأس للدولة، ولو كلفه الأمر هدم ما تبقى منها،
لم تكن حكاية مرافئ للمخدرات والتهريب.. فكل مرافئ لبنان (ولاسيما الشرعية منها) يمكن أن ينطبق عليها هذا التوصيف في ظل الوضع الاستثنائي الذي فرضته الحرب الأهلية على البلاد والعباد،
والأمن جسم هش لا يحميه وجود المراقبين الذين قد يكونون في أحسن الحالات شهوداً على البادئ بإطلاق النار،
كذلك فهو ليس حلاً، وليس بالضرورة مدخلاً إلى الحل، بل هو – بالمعنىة العميق – نتيجة له.
ويفترض أن اللجنة السداسية العربية قد باتت على وعي بطبيعة المسألة اللبنانية وشروط توفير الحل السياسي الناجع لها، بمسبباتها أصلاً والنتائج.
الحل بإعادة الدولة إلى لبنان،
الحل ببعث الجمهورية ذات النظام الديموقراطي البرلماني فعلاً،
وهذا لا يكون إلا بقدر من الاصلاح السياسي لوجوه الخلل الفاضحة في النظام السياسي، وبالاعتراف بآدمية اللبنانيين ومن ثم بمواطنيتهم وحقهم في أن يشاركوا في تقرير مصيرهم.
ومع التنويه بنجاح مجلس الجامعة في الخطوة الأولى، فإن الإقرار بنجاح العرب سيظل ينتظر كلمتهم الفصل في العمق السياسي للأزمة في لبنان،
وهي، في المناسبة، أزمة عربية، وحلها يعني جميع العرب في لبنان وخارجه.