كأي “ضحية” قضيته عادلة وحجته قوية لكن خصمه أقوى من العدل والحق والمنطق والقانون الدولي، عرض أمين اللجنة الشعبية العامة في الجماهيرية العربية الليبية، أبو زيد عمر دورده، موقف بلاده من حملة “الإرهاب” المنظم التي تشنها عليها الولايات المتحدة الأميركية.
كان هادئاً أكثر مما توقع سامعوه، ودقيقاً في اختيار كلماته، واثقاً من قيادته ومن نفسه، مؤمناً بحق بلاده، متقصداً الابتعاد عن الاستفزاز والكلمات المدوية التي تزعج بصخبها ولا تفيد في إقناع أحد، بل غالباً ما تفقد القضية العادلة أنصارها الطبيعيين.
وكانت خلاصة عرضه الرزين تذكر بحكاية الحمل الذي عكر الماء على الذئب، مع التنويه بأن ليبيا القذافي لم تكن حملاً في أي يوم، ولا استطاع الإرهاب الأميركي أن يجعلها تخفض راياتها وتغترب عن شعاراتها وتتخلى عن التزامها المقدس بقضايا نضال أمتها.
ولعل بين أبلغ ما قاله أبو زيد عمر دورده تلك الشهادة العربية في لبنان الشعب، لبنان المقاومة، لبنان التصدي للمؤامرة المتعددة الأطراف، لبنان الذي أثبت شعبه جدارته بالحياة والذي استشعر العرب في غيابه القسري نقصاً لا يعوّض كشف كم إن لبنان ضرورة لهم، بدوره القومي، بالتزامه، بإسهامه الحضاري المتميز كمنارة ثقافية للعرب في مختلف ديارهم الشاسعة الواسعة والمحكومة بقهر التخلف وسائر ترسبات الدهر الاستعماري الطويل.
على إن جوهر الموضوع السياسي لأبي زيد دورده، الرجل الذي درس التاريخ ليعرف كيف يخدم أمته أفضل، هو استشهاده بقول نقله عن رئيس عربي التقاه مؤخراً، والأرجح إنه الرئيس حافظ الأسد، ومفاده: “إن الابتزاز السياسي هو ذروة الإرهاب وأقسى أشكال ممارسته”.
وتكفي نظرة سريعة إلى الخريطة العربية لتبين ضخامة الإرهاب (الأميركي) تحديداً الذي يمارس على هذه الأمة متخذاً شكل الابتزاز السياسي.
ويمكن القول بسرعة إن هذا الابتزاز “قومي” إذ أنه يشمل “بنعمته” الأقطار العربية جميعاً مشرقاً ومغرباً، من المغرب إلى اليمن السعيد.
ومن دون أن نبرئ الأنظمة العربية من تهم التقاعس والتخاذل وسوء التقدير والتضييق على “رعاياها”، فإن الابتزاز السياسي (الأميركي) بات هو الذريعة الدائمة لهذه الأنظمة، خصوصاً مع تماهي الحدود بين واشنطن وتل أبيب… فمرة يبتز الأميركيون العرب بضرورة مداراة الثور الإسرائيلي الهائج، ومرة أخرى يبتز الإسرائيليون العرب (عبر الأميركيين) ليفرضوا عليهم مزيداً من التنازلات تحاشياً لمواجهة عسكرية لا يقدرون على تحمل نتائجها.
إن بين تل أبيب وواشنطن حساباً مشتركاً يستثمران فيه بالتكافل والتضامن حصيلة الابتزاز اليومي للأنظمة العربية… وهو ابتزاز شامل يمتد من السيادة إلى الاقتصاد مروراً بالثقافة والاجتماعيات وصولاً إلى الموقف من الدين والقيم الموروثة.
على إن للإرهاب الأميركي، أو بالأحرى الابتزاز، أسماء ملطفة مثل: حقوق الإنسان، التعددية الديموقراطية، اقتصاد السوق، والليبرالية الخ.
هذا مع التنويه بأن غالبية النظم التي تدعمها الولايات المتحدة الأميركية وتحمي استمراريتها هي غاية في الدكتاتورية والقسوة في قمع الناس ومجافاة حقوق الإنسان… ولعلها هي المفضلة في عين واشنطن، لأنها “نموذجية” : فهي أعجز من أن ترفض طلباً، وأقل وطنية من أن تمتنع عن تنازل، وبهذا فهي موضوع ابتزاز دائم سرعان ما يستثمر لتركيع أنظمة أخرى أكثر صلة بشعبها وأكثر قرباً من وجدانه.
أما إذا وصلنا إلى الدعم المنهجي والهائل الذي توفره الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل بوصفها “العصا” التي استخدمت مراراً لتأديب العرب وإلزامهم بالطاعة وإلا… فإننا آنذاك سنواجه نموذجاً حياً للإرهاب الجماعي الذي يتخطى الأفراد ليصيب الأوطان بأرضها وشعوبها وحقوقها التاريخية الثابتة.
ومن قبل خبرت ليبيا مثل هذا الإرهاب، ربما أكثر من غيرها من الأقطار العربية، عبر مأساة الاستعمار الاستيطاني الإيطالي الذي أباد ثلث الشعب العربي الليبي تقريباً وهجر ثلثه الثاني وأبقى الثلث الثالث في الدواخل لكي يوفر له “الخدمات”!
إن لبنان في ضمير العرب الآن، وليبيا – الثورة، ليبيا معمر القذافي قدمت للبنان واللبنانيين الكثير الكثير في سنوات المحنة.
وليس من باب رد الجميل، ولكنه من باب التعاضد القومي والتآزر وحماية الذات هذا الموقف التضامني الذي عبرت عنه القوى الأساسية الممثلة للتيارات المؤثرة في البلاد، إضافة إلى السلطة الشرعية،
فضرب ليبيا ضرب للعرب جميعاً في أربع رياح أرضهم،
تماماً كما كان تهديم لبنان طعنة للخاصرة العربية وتمكيناً للإرهاب الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، من أن يمد غيمته السوداء فوق الوطن العربي كله.
وصحيح تماماً ذلك الاستنتاج الذكي الذي أشار إليه أبو زيد عمر دورده حين ذكر بأن الولايات المتحدة سكتت عن نسف الجامعة الأميركية في بيروت، حيث ثبت للعالم إن الإسرائيلي (مباشرة أو عبر عملائه) هو المخطط والمنفذ،
تصوروا ما كانت فعلته شبكات “السي. ان . ان” و”الأي. بي. سي” و”السي. بي. اس” الخ. لو كان المتهم طرفاً عربياً أو مسلماً أو إنه هو الذي ضبط كما ضبط العميل الإسرائيلي بالجرم المشهود.
والابتزاز السياسي هو ذروة الإرهاب،
والعرب هم الضحية النموذجية والمفضلة لكل إرهابيي النظام العالمي الجديد، يستوي في ذلك الأميركي والإسرائيلي الذي يبتزنا تارة بالحرب وتارة “بالسلام”، كما يحدث هذه الأيام.
الفنان والمخابرات
للمناسبة، لا يجوز أن يمر اختيار العقيد يوسف الدبري رئيساً لهيئة الاستخبارات في الجماهيرية العربية الليبية من دون إشارة إلى دلالات هذا الاختيار.
فهذا البدوي ابن هون، في الصحراء الليبية، هو فنان مرهف الحس، وهو أحد الظرفاء المتميزين ، وهو صاحب عقل إعلامي ممتاز حتى لتحس إنه مدسوس على العسكرية وإنه دخل سلك الجندية بالخطأ.
ويوسف الدبري الذي تربطه بجمهورة واسعة من اللبنانيين صداقة متينة، هو صهر طرابلس الشام، ومعظم القيادات السياسية اللبنانية (والفلسطينية) التي تلاقت فكرياً أو سياسياً مع قيادات ثورة الفاتح، كانت تعقد “مؤتمراتها” في منزل يوسف، الفنان والأديب والمصور والذي حفظ “تراث” مرحلة الحركة الوطنية عن ظهر قلب.
وركائز الإيمان عند يوسف الدبري ثلاثة: العقيد القذافي والعروبة وكرامة الإنسان.
ولهذا فرح أصدقاء ليبيا بهذا الاختيار الموفق.
.. وحمادي الصيد
وجفت قلوب الكثير من العرب وهم يسمعون خبر غياب الدبلوماسي الرقيق و”المتفقه” في علوم السياسات العربية حمادي الصيد.
إن هذا “الجنتلمان” التونسي الذي خبر سياسة بلاده، أيام بورقيبة، حتى هرب منه ومنها، قد عمل لفترة طويلة مديراً لمكتب الجامعة العربية في باريسِ، ثم أضيفت إليه السوق الأوروبية المشتركة، فنجح حيث فشل الآخرن: إذ اخترق فعلاً ذلك الستار الحديدي غير المرئي الذي يسد طريق العربي إلى مركز القرار الفرنسي ومن ثم الأوروبي.
وبرغم إن كثيريون كانوا يأخذون على حمادي الصيد إنه كان رقيقاً أكثر مما يجب، فإنه بثقافته العالية وبشبكة علاقاته الهائلة، وبدأبه وسهره ومتابعته، قد حقق للجامعة العربية سمعة لم تتمتع بها في أي يوم داخل الأقطار العربية فكيف في بلاد الفرنجة.
رحم الله حمادي الصيد، صاحب كنز الصداقات “الأممية” التي قلما توفر مثلها لشخص يعمل في حقل ألغام اسمه السياسة العربية.