لأول مرة، يقف المتحدث باسم ثورة 23 يوليو، وفي عيدها، موقف الدفاع عن النفس، بدل أن يكون – بحق الثورة، وبحق القيادة، وبحق الانجاز – في موقف المهاجم والمحرض والتصدي لارتياد الآفاق الجديدة على طريق المستقبل العربي الأفضل.
فلقد غلبت اللهجة الاعتذارية أو التبريرية، والدفاعية عموماً، على خطاب الرئيس أنور السادات، أمس، في الذكرى الثانية والعشرين للحركة المجيدة التي يبدأ بها كثيرون تاريخ النضال العربي المعاصر.
لم تتغير لهجة الرئيس السادات، في خطابه الطويل، إلا في ثلاثة مقاطع محددة:
الأول هاجم فيه العقيد معمر القذافي وقيادة الثورة في الجمهورية العربية الليبية، دون تسمية.
والثاني انتقد فيه الاتحاد السوفياتي بالاسم.
والثالث غمز فيه من قناة المقاومة الفلسطينية، واعتبر تشبثها بحقها المطلق في أن تمثل هي – وهي وحدها – شعب فلسطين ضعفاً في مستوى قدرتها على فهم أصول اللعبة السياسية ومنطق عصر الوفاق الدولي، بل وكاد يتهم موقفها هذا بالتسبب في حرب أهلية جديدة بالأردن.
وأوضح إن الهجوم المثلث الأطراف هو الوجه الآخر لموقف الدفاع عن النفس الذي ساد الخطاب، وهو موقف يرتبط بطبيعة الممارسات السياسية التي سلكتها القيادة السياسية في مصر في السنوات الأربع الأخيرة حتى أوصلتها إلى موقعها الراهن.
فنتيجة لهذه الممارسات صار الملوك وشيوخ النفط – إياهم – حلفاء أوفياء لعروبتهم ملتزمين بالقضية القومية، وأصحاب حق شرعي في الشرف العظيم الذي حققته القوات المسلحة العربية في كل من مصر وسوريا، ومعها المقاومة الفلسطينية، للأمة العربية بحرب رمضان المجيدة.
ونتيجة لهذه الممارسات صارت الولايات المتحدة صديقة للعرب مع احتفاظها بصداقة إسرائيل، ومع كونها زودتها وتزودها باستمرار بالأسلحة التي قتلت وتقتل بها شباب مصر وسوريا وفلسطين والمغرب والعراق وسائر العرب.
لقد بدا الحل الاشتراكي، في خطاب الرئيس السادات، وكأنه قدر مفروض ولا مناص من قبوله بضرورات العصر وليس اختياراً ثورياً إرادياً أملاه الإصرار على التحرر من مناطق النفوذ ومن التبعية الاقتصادية التي تجر بطبيعة الحال التبعية السياسية، كما أملته استحالة التنمية في العالم النامي بالاعتماد على المعسكر الإمبريالي.
أما المبادرات الثورية التي اتخذها جمال عبد الناصر في النطاق العربي تأكيداً لانتماء مصرالقومي وتجسيداً لدورها كقائدة وقاعدة للنضال العربي فقد بررها الخطاب بالفوائد الكبيرة التي جنتها مصر منها، إن على صعيد النفوذ والهيبة أم على صعيد الفائدة المادية المباشرة.
ومن الطبيعي، مع منطق كهذا، أن يغيب تماماً ذكر أعظم هذه المبادرات وأخلدها وهي إقامة أول دولة للوحدة في تاريخ العرب الحديث.
على إن الموقف الدفاعي يصل إلى ذروته عند الحديث عن الأخطاء التي وقعت في ظل الثورة.
وليس عيباً، أو حراماً، أن يمارس النقد العلني للثورة وأخطائها.
لكن هذا النقد يكتسب معناه الحقيقي من الاندفاع قدماً في طريق الثورة. أما في ظل الجمود بالثورة، أو في ظل الانكفاء عن أهدافها فإن النقد يصبح اعتذاراً، والاعتذار يجر إلى “التصحيح”، والتصحيح – في غياب إرادة ثورية – يصبح تراجعاً، فإذا كان “لا ذنب بعد إقرار” فإن “التراجع عن الخطأ فضيلة”، والله مسامح كريم هو – جل جلاله – مستعد دائماً لأن يعفو عما مضى.
وصحيح إن الرئيس أنور السادات قد تولى الحكم في مصر في ظرف لعله الأحلك من الظروف التي واجهتها الأمة العربية،
لكنه تولى القيادة باسم ثورة 23 يوليو، وبوصفه من أبنائها.
وكانت مهمته أن ينقذ مصر (والعرب) بالثورة، مستعيناً بتراثها الغني من التجارب والدروس المستفادة من مواجهتها للتحديات العديدة والخطيرة التي اعترضت طريقها والتي صنعها حلفاء اليوم من أقطاب الإمبريالية والرجعية العربية، إضافة إلى أهل الردة داخل مصر.
لذا فمن العبث انتظار الإنقاذ على يد هؤلاء “الحلفاء” الذين ناصبوا الثورة في مصر، بل والثورة عموماً، العداء السافروالثابت وسعوا باستمرار لتصفيتها حتى يطمئنوا إلى غدهم..
وما دام هؤلاء جميعاً مطمئنين فمن حق المواطن العربي، في مصر وخارجها، إن يقلق أشد القلق.
ويزيد في قلقه فعلاً أن يسمع من أحد رجال ثورة 23 يوليو مثل ما سمعه في خطاب الرئيس السادات يوم أمس.