.. و”عاصفة الصحراء” تعيد نفسها مرتين، ولكنها لا تكون في المرة الثانية مجرد “نكتة سوداء” أو “كاريكاتور”، بل “مأساة بيضاء”، كالموت، ولعل “أبطالها” يعودون إلى ارتداء ثياب الحرب لاستكمال المهمات التي قصروا عن إنجازها خلال العاصفة الأولى…
إن صدام حسين وهو يحاول تحريك الحدود المرسومة على الرمل إنما يحفر خنادق من دم داخل صدر كل عربي تتسع لكل جيوش الاحتلال الأجنبي، وهو يحول نفق الاتصالات السرية مع “العدو” الإسرائيلي إلى “أوتوستراد” عريض مزين بصور ملونة للقاءات العلنية واتفاقات الصلح المنفرد التي تزهر مضيفة مزيداً من البهاء إلى حديقة الورد خلف البيت الأبيض الأميركي.
فالكويت هي، مرة أخرى، الذريعة وليست الموضوع. هي أتفه النتائج وليست أخطرها، أما الأسباب فعديدة ولها تاريخ ولها سياق لم يبدأ مع إعلان الحرب على إيران الجمهورية الإسلامية ولا هو انتهى مع المغامرة الانتحارية بغزو الكويت قبل أربع سنوات.
ويمكن “استشفاف” بعض الأسباب من خلال النتائج، وبينها على سبيل المثال لا الحصر: الشروط التي اضطر العرب لقبولها من أجل عقد مؤتمر مدريد، كما من خلال الاتفاقات التي عقدت خارجه وعلى حسابه، يستوي في ذلك اتفاق غزة – أريحا، والاتفاق الملكي تمهيداً لمعاهدة سلام بين الأردن وإسرائيل، والإعلان الأخير وباللسان الملكي (السعودي هذه المرة) عن رفع المقاطعة عن المتعاملين مع إسرائيل.
إن صدام حسين هو “البطل” في التحولات التي أصابت الصراع العربي – الإسرائيلي فقزمته وجعلته غير ذي موضوع، فلا إدارة غزة تستحق أن تكون “قضية” ولا سلطة أريحا تستاهل ثورة ونهراً من الدماء الغزيرة لما يتوقف عن الهدير، ولا وادي عربة في مستوى التنازل الملكي المتمادي منذ عشرين عاماً أو يزيد.
ويمكن للخليجيين جميعاً، وبينهم الأسرة السعودية، تبرير خروجهم من “العروبة” والالتزامات “القومية” والإسلام نفسه بالخوف من صدام حسين، كما حصل فعلاً، وإن كان الطرفان قد التقيا في النهاية تحت المظلة الإسرائيلية وفي خدمة المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي طالما ظل منسجماً مع النظام العالمي الجديد ومصالح قيادته الأميركية.
هل العاصفة الجديدة إعلان بداية الطور أو الفصل الثاني من “الخطة” حيث يندفع صدام حسين (أو يدفع) إلى إشعال النار على الحد الفاصل بين المقامرة الانتحارية وبين اللعب بمصير الأمة لحساب أعدائها السابقين (حماتها الجدد!!) وببرودة الأعصاب التي يتمتع بها المرتزق المحترف؟!
لقد أوصلت “صواريخ” صدام حسين الأولى إسرائيل إلى المغرب والجزائر وتونس كما إلىسلطنة عمان على طرف الجزيرة العربية، فإلى أين ستوصلها حشود “البدون” التي نصب لها الخيام، أمس، على التخم الملغوم مع الكويت والذي يتحكم غيره بساعة توقيته؟!
وإذا كان “التحرير بالاحتلال” قد حقق للمحتل الأجنبي (بقيادته الأميركية) كل تلك المكاسب التاريخية الهائلة في السياسة كما في الاقتصاد وفي الجغرافيا كما في الاستراتيجية الكونية، فإن حماية “التحرير” باحتلال جديد مرشحة لأن تنهي أسطورة حق العربي في تقرير مصيره، ناهيك عن التصرف بموارده الطبيعية سواء أكانت نفطاً أم مياهاً أم مضائق ومعابر تتحكم بعقد المواصلات العالمية براً وبحراً وجواً؟!
العاصفة الأولى أسقطت النفط نهائياً من يد العرب، وحولته إلى أداة لابتزازهم وإذلالهم واسترهان أرضهم وإرادتهم لأجيال عديدة،
كذلك فهي قد حولت الصراع على التاريخ بين العرب وأعدائهم الإسرائيليين إلى مجرد نزاع حدودي تافه على بعض الكيلومترات من الأرض التي لا نفط فيها، وأنهت القضية التي طالما شكلت الرباط المقدس بينهم، ومسختهم من أصحاب مشروع سياسي عظيم التأثير في مستقبل العالم إلى مجرد متسكعين على هامش التاريخ يستدرجون من يرفع عنهم عبء الحكم والقرار وإدارة الثروة ليتفرغوا لمباذلهم الصغيرة ونسج الأحلام الكبيرة شعراً ونثراً فإذا ما استفاقوا أكلوها ولعنوا قائلها وناقلها وسامعها المتخلف عن ركب التقدم الإنساني!
ماذا تبقى من مهام للعاصفة الثانية إذاً؟!
لعلها تستهدف أن تجعلنا جميعاً في مثل وضع إخواننا العراقيين: محاصرين بالجوع والمرض والنظام السفاح الذي يمنع علينا إسقاطه أو الانتفاض عليه؟!
لعلها تستهدف تعميم النموذج العراقي الناجح: وطن مستباح وشعب ممزقة وحدته، شماله مقتتل وجنوبه مقتول ووسط يعيش في رعب مدمر تحت ظل الحاكم القاتل، وقوى الاحتلال الأجنبي تتحكم بالهواء وأشعة الشمس على امتداد الوطن الكبير كله!
ألا تتلازم الآن مقاطعة الأخ الشقيق ومحاصرته (في ليبيا كما في العراق) مع رفع المقاطعة عن العدو (السابق) وفتح الأبواب لسفاراته ومؤتمراته وإعطائه موقع الطرف الأكثر رعاية؟!
كأنما الخيار محدد: تكون كل دولة عربية محاصرة بالتجويع والمرض والمقاطعة من الخارج، أو آمنة مستقرة في الداخل بفضل قوات الاحتلال الأجنبي التي توفر لها الحماية ولا بأس أن أخذت بالمقابل كل الثروة وكل السلطة، فالروح عزيزة.
حصار الجوع والموت اندثاراً أم الاحتلال باسم التحرير؟!
ذلك هو الخيار: والأمران جميعاً يوصلان إلى قطع الصلة بالماضي والحاضر ودخول العصر الإسرائيلي، كأفراد لا كجماعات، وكحكام وليس كدول، وكمتسولين وليس كأصحاب إرادة ولا أصحاب ثروة ولا أصحاب أرض، والأهم : كناس بلا هوية ولا جنسية ولا قضية، مثلهم الأعلى هؤلاء الأقوام من “البدون” الذين جمعهم صدام حسين على حدود الكويت ليهدد بهم أصحاب الجنسيات التي كانت ذهبية ذات يوم، ولم يعد لأصحابها إلا الذكريات في عصر التحرير بالاحتلال!
إعلان موت السياسة الفلسطينية:
خالد الحسن!
من زمان مات خالد الحسن. كان إعلان الوفاة ينتظر الموت النهائي للجسد العملاق الذي تهاوى بتأثير الآلام والجراح المعنوية أكثر منه بفعل الداء العضال.
مات خالد الحسن يوم ماتت “السياسة” في العمل الوطني الفلسطيني، يوم صودرت حيوية الحركة الوطنية الفلسطينية وقمع الرأي الآخر، سواء على مستوى التنظيم بمستوياته العليا كما الدنيا (فتح) أو على مستوى منظمة التحرير، ناهيك بالمستوى القومي حين حظر “التدخل” في الشأن الفلسطيني على “العرب” إلا من “تفلسطن” منهم أو “تهود”، والطرفان حليفان.
بل لعل مرض “أبي السعيد” بكل عذاباته، قد جاءه كنتيجة للمرارات والخيبات والإحساس المتعاظم بأن كل ما أسست له التضحيات الغالية يهدر على مذبح الزعامة الفردية ، فتضيع – مجدداً – القضية والثورة وحلم الدولة ومنظمة التحرير وحركة “فتح” في صفقة مخزية يعقدها ياسر عرفات – منفرداً – مع إسرائيل كلها، بهدف الانضواء تحت لواء الاحتلال بدلاً من قتاله من أجل التحرير.
لم يكن خالد الحسن من دعاة التحرير من النهر إلى البحر، وكان يجهر بما كان يعتبر تهمة في البدايات: “اليمينية”، ومن ضمن هذا المنطق كان يقول بضرورة توظيف الكفاح المسلح في خدمة السياسة، وبضرورة الانفتاح على الغرب والولايات المتحدة الأميركية بالذات، وحتى على المنظمات اليهودية وبعض القوى المؤثرة في الكيان الإسرائيلي التي تقول بالسلام،
لكن ياسر عرفات لم يكن يريد شركاء. وليست مصادفة أنه وصل إلى غزة وحده، بغير رفاق السلاح القدامى والذين أسهموا في صنع أسطورته الشخصية وبينهم إلى جانب خالد الحسن الراحلون أبو أياد (صلاح خلف) وأبو جهاد (خليل الوزير)، بغير أن ننسى تغييب فاروق القدومي والاستغناء عن خدمات أبو مازن (محمود عباس) على عتبة أريحا.
ولعل خصوم خالد الحسن سيبكونه بجرارة أشد من رفاق العمر داخل الحركة.
وفاة خالد الحسن إعلان رمزي عن وفاة حركة فتح، بعد الإعلان الرسمي عن موت منظمة التحرير الفلسطينية.