لا يمكن النظر إلى عودة “فرنسا التاريخية” إلى الجزائر المستقلة بمعزل عن مجموع التطورات التي أصابت علاقة العرب بالغرب في أعقاب هزيمة 1967 ثم في أعقاب حرب 1973.
إن يوم 5 حزيران 1967 يبدو وكأنه التاريخ الأصح لعودة العرب على الغرب، أو باتجاهه، كما إن يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 هو التاريخ الأصح لعودة الغرب إلى المنطقة العربية وكأن شيئاً على امتداد السنوات العشرين السابقة، لم يكن.
والإثارة في زيارة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان للجزائر معدومة إذا ما قورنت بجولة الرئيس الأميركي (السابق) ريتشارد نيكسون في عواصم المشرق العربي. وأن يرفرف العلم الفرنسي في شوارع المدن الجزائرية بعد 13 سنة من الاستقلال أمر عادي جداً إذا ما قورن برفع العلم الأميركي في القاهرة بعد شهور قليلة من الاعلان الرسمي عن أن الحرب قد أوقفت والنصر قد استحال لأن أميركا هي التي كانت تقاتلنا بنفسها وبجيشها وليس إسرائيل.
لماذا هذا الرابط بين الزيارتين – الحدثين؟
أولاً : لأن دلالاتهما واحدة. ففرنسا ديستان هي الوجه الآخر للولايات المتحدة الأميركية. هي ليست المستعمرة الأيمركية القديمة، لكنها ليست أيضاً فرنسا ديغول، فرنسا أوروبا المستقلة المواجهة أو الموازية لأميركا. وبهذا المعنى فهي ليست البديل الأوروبي المستقل للإمبريالية الأميركية، بل هي البديل الغربي المقبول (سياسياً واقتصادياً وثقافياً) للمعسكر الاشتراكي.
ثانياً: لأن التزامن عنصر أساسي في هذا السياق. ولا دور للمصادفات في أن تجيء زيارة أول رئيس فرنسي لجزائر ما بعد الاستقلال بعد شهور قليلة من زيارة أول رئيس أميركي لأرض العرب الخارجين لتوهم من حربهم الرابعة ضد الغزو الصهيوني المدعم بالمساندة الغربية أساساً (فرنسية – بريطانية في البداية، ثم أميركية فيما بعد).
ثالثاًك لأن الزيارتين تجيئان بعدما انحصر الوجود السوفياتي في المنطقة في أضيق الحدود، مما يوحي بأن إتمامهما كان غير ممكن في الفترة السابقة التي شهدت انتعاشاً في العلاقات العربية – السوفياتية أوصلها إلى حافة التحالف.
في أي حال، ليس دقيقاً القول إن الغرب قد “عاد” إلى المنطقة العربية. وليس دقيقاً القول إن العرب قد عادوا إلى الغرب[.
الحقيقة إن الغرب، غرب فرنسا وبريطانيا وألمانيا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، لم يخرج أبداً من المنطقة، وإن السياسة العربية الرسمية لم تكن في أي يوم معادية للغرب، بمعنى العداء.
ولم يحصل إن اتخذت السياسة العربية موقفاً نهائياً من الغرب كغرب، ولا هي تعاملت مع الغرب كوحدة. حتى عندما شنت بريطانيا وفرنسا الغربيتان، بالتواطؤ مع إسرائيل الغربية، العدوان الثلاثي على مصرن فإن الغضبة العربية لم تشمل أميركا ولا بقية دول أوروبا الغربية، بغض النظر عن الخطب وتصاريح المناسبات.
أكثر من ذلك: إن المقاطعة العربية، للدولتين الغربيتين المشاركتين في العدوان لم تكن شاملة، فبعض الحكومات قطع مع لندن وظل على علاقاته مع باريس، والبعض الآخر قطع مع باريس محتفظاً بعلاقاته مع لندن.
والأمر ذاته تكرر بعد هزيمة 1967 التي كانت نتيجة حرب غربية أخرى ضد العرب بالرصاص الإسرائيلي.
ويبدو مفجعاً القول إن الغرب قد خسر العرب، أو معظمهم، بعد أن هزمهم – عسكرياً – في ثلاثة حروب إسرائيلية، ثم “استعادهم” بعد الحرب الوحيدة التي لم تنته بهزيمة، والتي كان يمكن أن تنتهي بنصر لو إن عداءهم له كان حقيقياً!
لكن هذا القول يكتسب معناه الواقعي حين يقول مسؤول عربي كبير لصديق سأله عن السوفيات: “السوفيات! إنهم أعدائي”!!