ناقصاً كان “المشهد” ، برغم “تاريخيته”، وبرغم أن كل تفصيل فيه مدروس ومراقب ومحروس جيداً.
الوصول، الدخول، الحلول، تقبيل الأرض، وشارة النصر المبتسصرة والخطاب الذي لم ينس فيه أحداً، حاضراً أو مغيباً، ولم ينس فيه أمراً، سواء أكان شعاراً أم أمنية.
لكن شيئاً ما كان يفسد الفرحة فلا يدعها تكتمل، كما أنه كان يمنع دائرة الحزن من الاكتمال: لعلها التسمية “الزيارة”. لعلها الترتيبات. لعلها التسمية الإسرائيلية المقابلة “الصحراء الحارقة”. لعله الضابط الإسرائيلي رفيع الرتبة الذي استقبله على “الحدود” بين الفلسطيني وفلسطينه.
يتوالى شريط الرحلة الأسطورية، عبر شبكات التلفزة الأجنبية، ويستعاد، ويتزايد عدد الشارحين والمفسرين والمحللين، وتتراكم توقعات الخبراء من اقتصاديين واستراتيجيين، أكثريتهم من الأجانب وأقليتهم من “العرب المصالحة”،
لكن الجو يبقى بارداً، والصورة تظل صورة تفتقد النبض، والجمهور أكثر تعقلاً وهدوءاً مما يفترض أو ينبغي.
ما الأمر؟! أين دموع الفرح بالعودة والعائدين؟! أين نشوة الزهو بانتصار الدم على السيف؟! أين ارتعاشة الإحساس بأنك تعيش التاريخ، وأن لك دوراً في صنعه، أو تصحيح ما كتب منه؟!
هذه غزة، ولكن أين فلسطين؟!
هذا هو “القائد”، ولكن، أينها الثورة؟!
هذا هو “الرئيس”، ولكن أين “المنظمة”، وأين “التحرير”، ومرة أخرى أين فلسطين؟!
ثم أنه وحيد…
هنا مكمن السر: إنه وحيد، إنه العائد وحيداً!
لفلسطين في الذاكرة العربية عموماً، والذاكرة اللبنانية خاصة، أسماء شتى: غسان كنفاني، أبو يوسف النجار، كمال عدوان، كمال ناصر، أبو علي أياد، والعظيم أبو جهاد خليل الوزير، والخطير أبو أياد صلاح خلف وأحمد أبو الريش وعماد عقل وغيفارا غزة، وسعد صايل والهمشري وعز الدين القلق وألوف الرجال الذين مدوا جسومهم جسراً إليها ، وسقوها بدمائهم وانزرعوا فيها بلا قبور وبلا جنازات وبلا مشيعين…
لفلسطين في الذاكرة العربية عموماً، والذاكرة اللبنانية خاصة، أسماء شتى للشهداء الأحياء: “الحكيم” جورج حبش، الشيخ أحمد ياسين، أحمد جبريل، عبد العزيز الرنتيسي، أبو خالد العملة وأبو صالح، أبو نضال، والدكتور أنيس صايغ، وهاني الهندي، وخالد الفاهوم ونايف حواتمه وياسر عمرو وبهجت أبو غريبة وأبو اللطف القدومي وأبو رامي النمر، وآلاف “الكادرات” من الرجال الذين عز عليهم الاستشهاد ولكنهم أمضوا أعمارهم في الطريق إلى الشهادة… خصوصاً وإن الشهادة كانت الطريق الوحيد للعودة.
من هؤلاء الذين إلى جانبه، يقدمونه إلى “شعبه”، ويقدمون شعبه إليه؟!
من هذا الشعث وهذا التقريع وهؤلاء “الجنرالات” الذين ما تركوا جبهة إلا وهربوا منها قبل أن تبدأ المعركة ورمزهم الذي يعرفه أطفال لبنان جميعاً “الحاج إسماعيل”؟!
أين الذين رفعوا اسم فلسطين إلى قمة الدنيا وجعلوها تعويذة نضال لكل الساعين إلى التغيير بالثورة؟!
أين بالإضافة إلى المقاتلين بالسلاح أولئك الذين جعلوا فلسطين القصيدة واللحن والأغنية، وقدموا عبرها صورة العرب كأصحاب إسهام حضاري مجيد؟!
أين محمود درويش وهشام شرابي، أين يوسف صايغ وادوار سعيد، وأين المئات من الأساتذة والخبراء والفنانين والأدباء والمبدعين الذين جعلوا فلسطين (العربية) قلادة في أعناق الصبايا والشباب تملأ صدورهم إيماناً وتملأ أفئدتهم وعياً وتملأ نفوسهم إرادة بأن الصح هو المقدس وهو الباقي وإن الخطأ إلى سقوط واندثار ولو بعد حين؟!
أين فلسطين؟!
أين العروبة والعرب، وقد اتخذوها هوية وخرجوا من أمنية الوحدة إليها بوصفها الراية، ورأوا فيها الثورة ولو اتهموا بالكيانية، وأعطوها الأعمار والدماء والتركة التي كان يحتاجها أبناء الشهداء؟!
لعله كان يستشعر بعض الوحشة، لكونه يعود وحيداً، فظلت ابتسامته شاحبة، وظل منظره باهتاً مدموغاً برسمية باردة يزيد من كاريكاتوريتها “حرس الشرف” مكرساً تحول الفدائيين إلى شرطة وتشريفات.
ولعل المشهد كان يفرض طرح السؤال القاسي: أترى هذه العودة بالذات كانت تستحق كل ما بذل من تضحيات وشهداء؟!
أهو بكل الذين قضوا في الطريق إليها ومن أجل تحريرها؟!
أهو بكل تلك الأماني والأحلام والشعارات التي صنعت أعمارنا وتصنع الآن هذه الخيبة المدمرة، خصوصاً وإنها تجيء تتويجاً للخيبات القومية الأخرى؟!
كانت العودة، في التمثل، البداية، فهل ترى عودته نهاية؟!
أتراه عاد وحيداً بديلاً عن جميع الذين لن يعودوا؟!
أتراه يعي هذه الحقيقة المرة، أم أنه يراهن على براعته وشطارته وحيله الكثيرة التي أعيت معظم ملوك العرب ورؤسائهم وقياداتهم، ودوخت جماهيرهم على امتداد ربع قرن أو يزيد؟!
ولكنه “الإسرائيلي” من يواجهه الآن.
فكيف سيقدر على أعباء المواجهة وهو يعود وحيداً بغير ثورة وثوار، بغير مفكرين وأفكار، بغير علم وعلماء، بغير إبداع ومبدعين، وبغير الشعر والشعراء؟!
لا تكتمل صورة فلسطين بلا اثنين: الشهادة والشعر،
ولا تكون فلسطين بلا عروبة، بما هي الثورة، وبما هي الجماهير، وبما هي الديموقراطية، وبما هي المدخل إلى الوحدة والغد الأفضل، وليست بأي حال المخرج الخلفي للانسحاب من ذلك كله إلى حكم ذاتي محكوم بأن يكون حارس حدود إضافياً للاحتلال الإسرائيلي.
كل المشهد ناقص: لا هذه فلسطين ولا الفلسطينيون هم العائدون،
مع التمني بأن تحولها حيوية مناضلي “الداخل” إلى نقطة بداية نحو الصح، ولا تبقى توغلاً في الخطأ يُخرج العرب من “فلسطينيتهم” ليدل “الفلسطينيين” منهم في حالة إسرائيلية.
وفي انتظار القصيدة الجديدة من الداخل ستظل الفرحة محبوسة في الصدور، ولا تجرؤ أن تخرج فتعتقلها “الشرطة” حتى لا يتهمها جيش الاحتلال بالتعاون مع “المخربين”.
حمى الله فلسطين.