… وهذه عملية نموذجية للخطأ السياسي المطلق: في المكان والزمان والاستهداف واختيار الضحية ثم في الشعار الذي أعطي لها فكشفها بدلاً من أن يغطيها.
ولعل من نفذ عملية خطف الطبيب الفرنسي جيروم ليرو ليل أمس في بيروت لا يريد أن يموّه نفسه، بل يريد أن يخوضها حرباً مكشوفة ضد من سعى بدأب وصبر عجيبين ومن دون كلل حتى نجح في إطلاق سراح الرهينة البريطاني جون مكارثي، ومضى يتابع جهده لاطلاق المزيد من الرهائن المحتجزين منذ سنوات.
قبل خطف جيروم ليرو وعشية إطلاق جون مكارثي، كانت الجهة المتضررة من إطلاق الرهائن، والكل يعرفها، ويسميها باسمها الصريح، قد لجأت إلى أسلوب لا يقل بشاعة حين أقدمت على قصف بعض مكاتب الأمم المتحدة في بيروت احتجاجاً على دخول بيريز دي كويار على خط الوساطة لإنهاء موضوع الرهائن.
إنه نوع من إعلان الحرب على العالم كله، واستعداء للإنسانية جميعاً. بذريعة دفع الظلم والاحتجاج على عدوانية بعض “المستكبرين” الغربيين على العرب والمسلمين.
إنه نوع من الانتحار، وهو مختلف جداً بل ومتناقض مع المعاني النبيلة للاستشهاد من أجل قضية محقة سواء اتصلت بالأرض أم بالسماء،
هذا قبل الحديث عن بيروت واستباحتها مجدداً بذرائع لا يقبلها عقل أو ضمير، وقبل الحديث عن الهزة التي ستحدثها عملية كهذه في أوساط اللبنانيين الذين يكافحون لنسيان ماضي الدم والقتل المجنون ولتحسين صورتهم في العالم بحيث يعطف عليهم ويساعدهم في تضميد جراحهم الخطيرة،
وقبل الحديث عن الاساءة التي تلحق بدمشق ودورها في توطيد “السلام العربي” في لبنان، والأذى الذي سيلحق بعلاقات دمشق مع الجهة الراعية والحامية لمنفيذ الخطف.
وأيضاً قبل الحديث عن التشوه الإضافي الذي سيلحق بصورة المتعاطفين مع تيار الثورة الإسلامية في إيران، لأن المواطن العادي اعتاد احتساب المنظمات التي تحتجز رهائن، وبغض النظر عن أسمائها، كفصائل أو مفارز أو جيوب تنظيمية لبعض ذلك التيار.
بمثل هذه العملية يتحول الضحايا إلى جناة والجناة إلى ضحايا، ويصير صاحب القضية قاتلاً والمظلوم سفاحاً يذبح المستضعفين مقدماً خدمة مجانية لا تقدر بثمن للمستكبرين.
فالشيطان الأكبر لا يلخص ولا يختزل في طبيب ترك بلاده وجاء إلى بلاد غريبة ليساعد في تخفيف آلام الفقراء وإنقاذ جرحى حروب الأخوة – الأعداء، ولا في أستاذ جامعي، أو في صحافي يغطي الأحداث، بصرف النظر عن ميول هؤلاء السياسة وعواطفهم وولاءاتهم الشخصية.
ولقد ثبت فشل هذا الأسلوب في الشرق كما في الغرب، فهو يحقق أغراض الخصم ويوفر له مزيداً من الأسلحة وفي معركته ضد الحق وأصحابه وضد القضايا العادلة والطامحين إلى التحرر والتحرير والغد الأفضل.
فالأميركي ليس بالضرورة، الولايات المتحدة الأميركية، وهو لا يمكن أن يختزل الإمبريالية والاحتكارات العالمية، كائناً من كان.
والفرنسي ليس فرنسا، واختطافه ليس انتصاراً عليها بل هو هرب من ميدان المواجهة الفعلية معها، متى كانت لها ضرورة،
والبريطاني ليس بريطانياً ، ولن تتوقف حركة الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس إذا غاب عنها جواب آفاق أو حتى رجل مخابرات من الدرجة الثالثة.
ومهما أعطي لمثل هذه العمليات من تسميات مزورة ومن شعارات براقة تفتقر إلى الصحة، فهي معارك موضعية بين أجهزة مخابرات تعمل في الخفاء لأغراض لا تقدر على إعلانها، خصوصاً وإنها لا تعني المتضررين المباشرين (وهم في هذه الحالة اللبنانيون) لا من قريب ولا من بعيد، اللهم إلا في زيادة همومهم ومشكلات يومهم وغدهم.
إنها حرب أخرى في المكان الخطأ والزمان الخطأ وبالشعار الخطأ،
وهي لن توصل إلا إلى تعميق الشعور بالهزيمة واليأس وفقدان الثقة بالنفس وبالقوى التي كانت تصنف نفسها في خانة الثوار فإذا بعملها لا يخدم غير أعداء منطلقاتها وأهدافها المعلنة.
وهل أبأس من أن يتحول “الجمهور” إلى مناصر للأجنبي ومتعاطف مع “الكافر” ومشفق على “المستكبر” ومسحسوق تحت ثقل الشعور بالذنب والهوان،
إنه اعتداء ثان على الضحية، وتبرئة مجانية للجاني وتنطح إلى لعب دوره كاريكاتورياً بينما يترك المسرح فارغاً أمامه لتجديد هيمنته على المستضعفين فيالأرض والذين كانوا حلموا، ذات يوم، بأن شمس حريتهم تبزغ أخيراً، ثم اكتشفوا إن ما يشهدونه حالة غروب وليس حالة شروق.
حرام! ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
حرام1 امتحوا الناس البسطاء والمساكين والمتعبين فترة تنفس!