طلال سلمان

على الطريق اختلاف ولا معارضة بين “الدول” داخل الدولة

لم يستولد “انشقاق” الحكم، في السابق كما الآن، معارضة، ولا هو دفع الدم في الشرايين المتصلبة للحياة السياسية.
وبرغم حدة الطروحات أحياناً، ووجاهة المسائل التي طرحت وتطرح في بعض المناسبات، فإن الناس يتخذون منها مادة للسمر أو للتندر أو للتحسر على زمن ما قبل الحرب حيث كان للاختلاف السياسي (أو للصراع السياسي) قواعده ومؤسساته وتقاليده وجمهوره بطبيعة الحال.
وبرغم ضخامة الحشد في مهرجان النبطية، فإن الجمهور لم يذهب للتعبير عن معارضته للحكم، أو لإعلان معارضة كانت مضمرة، خصوصاً وإن الداعي إلى المهرجان قطب من أقطاب الحكم وشريك أساسي في المسؤولية “الرسمية” منذ بعض سنوات، ثم أنه أحد أوائل الذين بشروا بـ “الجمهورية الثانية” التي نعاها في خطابه الاعتراضي القاسي النبرات.
إنه أقرب لأن يكون اختلافاً في التوصيف والتقييم بين شركاء محكومين باستمرار الشراكة، وهو صراع بين متشابهين وإن تعددت الاجتهادات.
إنها “حرب مواقع” داخل دست الحكم، ومحاولة لإعادة صياغة توازن القوى بين “الحلفاء” بحيث لا يكبر بعضهم على حساب البعض الآخر، ولا يتجاوز أحدهم تخوم زعامة الآخر ومكانته السياسية.
ولعلها، بمعنى من المعاني، إعادة توضيح لمفهوم “الترويكا” التي تتسنم سدة الحكم ولتحديد من يمثل مَن من الطوائف الثلاث الكبرى.
بل لعلها، بمعنى آخر، إعادة ترتيب للتحالفات الداخلية ولمواقع هؤلاء الحلفاء داخل العلاقة اللبنانية – السورية المتميزة، ومن منهم “المتميز” فيها وبأي حدود، وهل يلغي المستجد القديم أم يتكامل معه وعلى أية قاعدة ووفق أي جدول للنسب؟!
ومهما حاول المواطن فإن عاجز فعلياً عن التفرغ أو حتى عن الاهتمام الجدي بأزمة العلاقة بين الحلفاء، ماهيتها وأسبابها ومسؤولية كل طرف عنها وفيها. ذلك إن التحولات الهائلة التي تعصف بالعالم مضافة إليها همومه المعيشية الثقيلة، واستشعاره بالقلق الممض نتيجة للتردي العربي العام مما يبهت صورة “مؤتمر السلام” واحتمالات توصله إلى تسوية شاملة، كل ذلك لا يبقي له الكثير من الطاقة والتنبه والقدرة على المتابعة لتفاصيل الصراع بين أطراف الحكم.
للمواطن مشكلته مع “الحكم” بكليته.
وهي مشكلة حادة وجدية وشاملة، بمعنى إنها تتعلق بأطراف الحكم جميعاً.
حتى المتعاطف مع هذا أو ذاك من الأقطاب لا يبدي كثيراً من الحماسة لمييزه أو استثنائه متى جرى الحديث على الحكم ووجوه تقصيره أو إخفاقه في التصدي للهموم الحياتية الثقيلة الضاغطة على فكر المواطن وجيبه ومعدته و… أحلامه البسيطة جداً جداً جداً، كحلم التمتع بنعمة الكهرباء والهاتف والاستشفاء والقدرة على تعليم الذرية الصالحة!
ولعل عنوان مشكلة المواطن مع الحكم إنه يفتقد فيه صورة “المؤسسة”.
يقولون له: هذه جمهورية مختلفة، الحكم فيها للمؤسسات وليس للأشخاص. هي الدولة لا المزرعة، وبالتالي فالأشخاص يذوبون عبر التوحد في “المؤسسة”.
ولكنه يرى أشخاصاً ولا يرى مؤسسة.
بل إنه يرى هؤلاء الأشخاص يعملون بلا كلل لغلغاء المؤسسة التي يتخوّفون من قدرتها – لو قامت – على إلغائهم أو تهميش دورهم.
إن الرؤساء والوزراء والكبراء يستبقون أنفسهم خارج مؤسسة مجلس الوزراء، مثلاً.
تنعقد الجلسة، فما أن ينفض المشاركون فيها، وبينما تتلى المقررات “الرسمية”، تتهاطل تصريحات “المراجع” و”المصادر الوزارية” أو التسريبات الصحافية لتؤكد غياب وحدة الموقف من القرارات المتخذة، أو حرص بعض الأطراف على تمييز أدوارها عن المجموع، أي عن المؤسسة.
للبنان في بعض الحالات عشرة رؤساء جمهورية، وعشرون رئيس حكومة، وثلاثون وزير خارجية… أما وزارات الخدمات فيتناتشها الجميع، ولا يتورع واحد عن الحديث “الفني” في شؤون المياه والطرق والهاتف والكهرباء والتعليم بفرعيه الرسمي والخاص.
الكبر خبراء في كل شيء، ولا أحد – تقريباً – يرى نفسه في صورة المؤسسة وفي قراراتها ويطمئن إلى أنه يصل إلى الناس بقدر ما تصل هي – المؤسسة – الحكم – الدولة!
كلهم حكام داخل الدولة، ودول ذات سيادة خارجها، في الوقت نفسه.
الوزير رئيس، والرئيس وزير، والوزارة مشاع وكذلك الحكم.
والأمثلة أكثر من أن تحصر أو تحصى، و”المشاعية” هذه لم تتوقف عند حدود الداخل بل هي أكثر ما سافرت إلى الخارج فقدمت نموذجاً فريداً لدولة فقيرة و”شحاذة” توفد إلى الجهة الواحدة أربعة أو خمسة موفدين يطرح كل منهم طرحاً مختلفاً عن الآخر لحاجات البلاد وأولويات الحكم فيها.
إن الأزمة في الحكم عميقة،
وهي تتخطى بأشواط موضوع الاختلاف القائم اليوم والذي دفع برئيس حركة “أمل” إلى إعلان استقالته وزميله عضو المكتب السياسي، على الهواء، من حكومة الثلاثين.
ومع ثقة الناس بأن هذا الاختلاف عابر وسيحل “على الطريقة اللبنانية”، فإنهم يتمنون لو إن الحكم تنبه – ذات يوم – إلى خطورة الأزمة الحقيقية لعلاقته بالناس وبالقول والدول، وعكف على علاجها واجتراح الحلول لها.
إنه حكم لم يستطع أن يقدم للناس رؤياه.
إنه حكم يومي، يكاد يفتقد المخيلة والقدرة على الحلم، والنضال لتحقيق الصعب واختراق المستحيل.
والقيادة مهمة شاقة ومتعذرة على “حكم مسبحة الدرويش” المهددة دائماً بالانفراط، والتي ستظل تفتقد الانسجام في الشكل والمضمون حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ومن قدر لبنان أن يعيش في ظل الاثنين معاً: الحكم وأزمته الدائمة.

Exit mobile version