ما أكثر الكلام، وما أقل المعنى والفائدة، وما أبعد الطمأنينة والسلام!
ما أكثر التمنيات والأوهام وما أقل الفعل، بل ما أبشع الفعل ورد الفعل، ورد الفعل على رد الفعل، وهلمجرا حتى يضيع أساس الموضوع ويصبح النقاش مجرد لهو وترف جلسات المقاهي والصالونات.
تختلط عليك صورة الوضع وأنت فيه ومنه، قريب إلى حد الانصهار والذوبان. وتضيع في تفاصيلها المولدة في كل لحظة المزيد من التفاصيل المتوالدة أيضاً بلا انقطاع. فإذا ما أصررت على التفكير بأساس الموضوع، عاملوك بوصفك عنصر إزعاج وتخريب، ونصحوك بأن تقصد بعض المنتجعات الشهيرة لترتاح وتريح!
وتدور في الدنيا بحثاً عن وطنك والقضية، مفترضاً أن البعد مصدر الوضوح في الرؤية والصفاء في التقدير واستشفاف صورة المستقبل.
تلتقي الناس فيبدأون بسؤالك وأنت الآتي للسؤال. ومع تزايد اللقاءات والمشاركين فيها على اختلاف مستوياتهم، تصبح الأسئلة والتساؤلات القلقة والمقلقة دثاراً من الشوك يستنزف قدرتك على الصمود ومواصلة البحث، ويسد عليك الأفق. فإذا ما أمامك ليل بهيم وما خلفك جحيم وما بينهما تنجيم حول نوايا ريغان العظيم، كأنما لم نعرفه كفاية ولا هو عرف “المسؤولين” عنا بما يكفي ليقرر سياسة نفض اليد الراهنة.
تذهب إلى بعض العواصم الكبرى، ثم تقصد عاصمة العواصم، ومحجة عرب آخر زمن، فإذا من فيها من “الكبار” ممت تربط بهم مسائل الصغار مسؤولون عن بلادك بما يهمهم أو يزعجهم مما يؤثر فعلياً على مصالحهم ويمسها أو يهددها بالضرر… وإذا أنت وبلادك خارج الاهتمام الخاص، وخارج الاهتمام العام، وبالتالي خارج التاريخ، خارج الزمن. ليست أكثر من شيء من “الجغرافية” يقرر أمرك المعنيون بخريطة المنطقة في ضوء التوازنات الإقليمية والدولية وتأثيراتها على سياسيات الأنظمة وأنماط تحالفاتها ومجمل علاقاتها بالقوى العظمى، لا فرق بين أن تكون في موقع الصديق أو في موقع الضد، أو في موقع البين بين المفضل والمألوف.
وتكتشف فجأة إن استقلال بلادك قد جاوز الأربعين من عمره، فتهزك الذكرى ويأخذ الحنين بمجامع قلبك إلى تلك الأرض الواقعة الآن في أسر الاحتلال،إسرائيل وإلى تلك “الدولة” بنظامها الفريد الذي كنت تناضل ضد عيوبه ووجوه الخلل فيه، فإذا به يذهب بالدولة ولا يبقى لك إلا العيوب والأمراض تحتجزك في مستنقعها الآسن بانتظار خلاص سيطول انتظارك له، وستدفع بعض عمرك ثمناً له، وهيهات هيهات أن تعرف متى وكيف يكون.
هل هو حديث مواجع وأحزان في يوم عيد؟
ولكن، ماذا تبقى لنا غير المواجع نعايشها وتعايشنا حتى لم نعد نعرف كيف يكون الفرح. اللهم إلا حين تأتينا نسمة الجنوب بتلك الرسالة اليومية: بعض أهلنا ما يزال على الطريق، يروي بالدم برتقال الحزن وزيتون الصمود، ويضيء بالنجيع شمعة في ليل الظلم والظلام، تهدينا وتدلنا وتؤكد بالملموس إن الغد يكون، ويكون لنا بمقدار ما نطلبه ونسعى غليه ونستحقه.
بلى، ثمة أثر من لبنان الذي تحب في العالم بعد.
فلبنان في العالم الآن هن الجنوب. وما عدا الجنوب مصادر للإيلام والخجل والشعور بالمهان: أفهل تعرف أو ترضى بأن تنصب نفسك محامياً عن الطائفية والطائفيين وصولاً إلى الفتن المذهبية، ناهيك بلصوص قوت الشعب، المستخدمين أنواع القنص جميعاً، ولاسيما القنص بالدولار؟!
وحدها بطولات أهلنا في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا، وصولاً إلى الباروك تعيد إليك ثقتك بنفسك فتستوي منتصب القامة، ويتوقف سيل العرق البارد عن طمس معالم وجهك ومرمى بصرك.
لكن ذلك لا يدوم، فلا بد من عرض للواقع السياسي داخل لبنان وفي المنطقة العربية من حوله. ولا بد من تحديد القوى صاحبة المصلحة في تحويل المقاومة البطولية في بعض لبنان من ظاهرة نبيلة وشبه محاصرة ومعزولة بتناقضها مع الواقع القائم إلى نهج وإلى برنامج نضالي متكامل تتلاقى على قاعدته الأحزاب والمنظمات والقوى والجماهير الراغبة في التغيير أو الطامحة إليه بدعم من محيطها العربي خصوصاً وإن المعركة قومية بطبيعتها وبنتائجها. أفليست أمجد وأقوى المواجهة – وباللحم الحي – مع العدو القومي للأمة العربية برمتها؟!
يقول لك المسؤول الفرنسي، على سبيل المثال: نحن نفهم جيداً ظاهرة المقاومة، فالصفحة المشرقة في تاريخنا هي تلك التي سطرها “الأنصار” في مقاومتهم البطولية لجيوش المحتل النازي، لكن “الأنصار” كانوا مجرد طليعة ثم جاءت جيوشنا النظامية وجيوش الحلفاء الهائلة فصنعت النصر… أما أنتم فتعيشون واقعاً مختلفاً، ولا نتصور أن أحداً سيجيء لنصرة مقاومتكم الشعبية المجيدة التي يعترف الإسرائيلي نفسه بأنها أرهقته واستنزفته وكلفته أكثر من مجموع خسائره في مواجهاته مع الجيوش العربية…
وحين تجادله ، بعواطفك، يمضي مع منطقه ليصل إلى الاستنتاج الطبيعي فيقول : – حسناً، لقد تطور موقف الحكم في بيروت، فأقر علناً بشرعية هذه المقاومة، وإذا ما تجاوزنا شكلية الاعلان لتناقض مثل هذا التوجه مع طبيعة النظام والقوى الحاكمة، فلسنا نجد للمقاومة في نظر الحكم أكثر من وظيفة محددة: أن تكون ورقة ضغط على المحتل الإسرائيلي، والإسرائيلي يدرك هذا وعليه فهو قد يحاول إطالة أمد المفاوضات بأمل أن يتعب الجنوبيون ويصيبهم اليأس، أو يُسقط الحكم هذه الورقة القوية كونه يتعجل انتهاء المفاوضات نتيجة بيعها للجمهور على إنها انتصار.
ويتدخل مسؤولفرنسي آخر ويضيف نقطة مهمة حيث يقول: – لنتذكر إن المقاومة الفلسطينية لم تصبح قوة إلا حين تبناها العرب بلسان قائدهم جمال عبد الناصر أساساً، ثم بمسارعة الأنظمة الأخرى والمنظمات والأحزاب إلى تبنيها حتى لا تتهم بالتنكر لفلسطين. أما مقاومتكم فتجيء في زمن لا تملكون فيه كعرب قيادة فذة كجمال عبد الناصر، والأنظمة في وارد الصلح أو التسوية مع إسرائيل وبواسطة الولايات المتحدة الأميركية وشفاعتها، وهي بالتالي في غير وارد تبني المقاومة والكفاح المسلح في أي مكان.
في واشنطن يتخذ الكلام سياقاً مماثلاً وإن اكتسبت اللهجة حرارة واضحة يتميز بها “الأميركي البشع” الذي صار الآن “البطل الشعبي” الرقم واحد في الولايات المتحدة وبأصوات الرجال والنساء والشباب منهم خاصة… يقول لك بعض المسؤولين في مكتب الشرق الأدنى لوزارة الخارجية أو بعض العاملين في البيت الأبيض أو المشتغلين لحسابه في بعض مراكز الأبحاث:
-لا تسألنا عن لبنان. لم يعد لبنان بين همومنا أو على جدول اهتماماتنا المباشرة. أنتم لا تريدوننا. حسناً اذهبوا إلى غيرنا، فلسنا على استعداد لأن نحرق أصابعنا مرة أخرى في بلادكم المليئة بالتناقضات والاتجاهات والانقسامات المتفجرة.
نستوضح الأسباب فيزيدونك علماً… يقول قائلهم:
-إن الحكم في بلادكم لا يعرف ماذا يريدز هو الذي جاء إلينا يطلب المساعدة وهو الذي طلب إرسال قواتنا وطلب المساعدة على بناء جيشه، ولكنه حين واجه مزيداً من المصاعب تخلى عنا وحتى عن جيشه واختار طريقاً آخر. إنه يملك هذا الحق، ولكنه لا يملك أن يتلاعب بنا مرة أخرى. صحيح إن لبنان مهم، غير إننا دولة عظمى، وليس مسموحاً أن يحقر رئيسنا وإدارتنا ووزير خارجيتنا وذلك قواتنا المسلحة ثم يقال لنا على طريقتكم “عفى الله عما مضى وتعالوا نبدأ صفحة جديدة”.
الأقسى من الكلام يجيئك فوراً في محاولة للتبرير، يقول محدثك الأميركي بما يشبه الصراخ:
-من تحسبون أنفسكم؟! إننا نعرف تلك النغمة من الغرور التي تتحدثون بها عن أنفسكم وعن لبنانكم، ولكنها لا تعكس الواقع. والواقع إنكم دولة صغرى، تكتسب أهميتها من كونها نقطة توازن بين الأقوياء في المنطقة، وطالما اختل ذلك التوازن أو تم تغييبه فلن يكون لبنان مهماً لأحد، خصوصاً وإن خلافات تياراتكم وفئاتكم لا تنتهي ولا يحكمها منطق.
ثم يصدر حكمه وهو يحدق في عينيك:
-لا وجود لمسألة لبنانية قائمة بذاتها الآن، ولم يكن الأمر كذلك في الماضي. لبنان جزء من كل وهو على أي حال الآن خارج اهتماماتنا، ولا نتعاطى مع موضوعه إلا من خلال تأثيره على مستقبل “عملية السلام” في المنطقة. إنه موضوع سوري بنسبة ما، وموضوع إسرائيلي بنسبة أخرى… وهكذا فلقد تركناه لهذين الطرفين، مع الاستعداد لبذل أي جهد مباشر يمكن أن يطلب منا للوصول إلى صيغة مقبولة من الدولتين القويتين. وقد نلعب دور علبة البريد أو حتى ساعي البريد لإيصالهما إلى تسوية ما في لبنان وحوله، ولكن ليس أكثر من هذا الدور في الوقت الحاضر.
وتسمع مزيداً من الكلام الجارح بقسوته عن الحكم والحاكمين في لبنان، فإذا أمين الجميل – في نظرهم – متقلب لا يهمه إلا أمر رأسه ومصالحه، وإذا رشيد كرامي متطرف ومؤيد للإرهاب الدولي، وإذا وليد جنبلاط مناور مبتدئ يلعب لعبة الكبار، وإذا نبيه بري مقابر ركب موجة التطرف للوصول ولكنه لم يعرف كيف ينزل عن النمر حين يتعب من الركب.
أما الأحزاب الفاعلة فصورتها صورة عصابات مسلحة، وهم غير معنيين بالتفريق بينها وإن خصوا الكتائب و”القوات اللبنانية” بحملة شعواء لقلة وفائهم ونكرانهم للجميل… وعلى أي حال فهم يفضلون حديث الطوائف والمذاهب ، ويستغربون منك أنت اللبناني، أن تتحدث بلغة عصرية فيها ذكر للأحزاب والمنظمات والدول في حين لا يأتي ذكر بلادك عندهم إلا بوصفها موئلاً للصراعات المسلحة بين المتعصبين من أتباع هذا المذهب أو ذاك.
*في الأمم المتحدة لا يحتاج الوضع إلى شروح، فما تشكو منه هنا يتبعك إلى هناك، ويترك بصماته الكالحة على وضع الوفود العربية ومواقف الوفود الأخرى من قضيتك.
إن العرب منقسمون على أنفسهم وأيما انقسام، بل هم منقسمون أصلاً على الموضوع الوحيد الذي كان يجمع بينهم ويوحد موقفهم ولو في الشكل، أي الموضوع الفلسطيني.
لبنان هناك ليس إلا جرحاً جديداً في جسد أرهقته الجراح والتمزقات، ولا علاج ولا من يعني بإيجاد العلاج.
وحين تلتقي المندوبين وأعضاء الوفود لا تسمع غير مزيد من التساؤلات القلقة والمقلقة التي لا تبقي لك فسحة للسؤال عن لبنان…
فهذا يهمس لك بما مفاده إن الحرب بين المغرب والجزائر قريبة، وإن لا أمل تقريباً في تدارك احتمالاتها ومنعها.
وذاك يفسر موقف حسني مبارك الأخير وتجديده شخصياً، الحملة على العقيد معمر القذافي والجماهيرية العربية الليبية بأنه مؤشر على اتجاه أميركي وغربي جديد لتشديد الحصار على هذه البؤرة الباقية على لهجة الرفض وإعلان العصيان لمفاهيم العصر الأميركي.
وثالث يقول بلهجة جازمة إن الولايات المتحدة ستفسح للنظام العراقي كي يلعب دوراً كبيراً في المستقبل القريب، ولا هم إن استمرت حربه ضد إيران، فالمنطقة – على حد تعبير مسؤول في مجلس الأمن القومي – تحتاج إلى توازن جديد لا بد أن تكون قاعدته عريضة تشمل مصر والفلسطينيين والأردن والعراق لمواجهة الخطر الإيراني ومحاصرة حليفه السوري… وثمة من يؤكد في واشنطن أن السعوديين والخليجيين عموماً يحبون أن يسمعوا هذا المنطق وإن ظلوا على خوفهم من المجاهرة به.
وعلى أي حال فإن الصورة التي عاد بها الوفد النسائي اللبناني الذي ذهب إلى الأمم المتحدة في نيويورك بالغة الدلالة على قسوتها.
لقد وجدت تلك السيدات الفاضلات إن قليلاً من الناس على استعداد لأن يسمعوهن، ليس فقط بين الأميركيين بل حتى بين الأصدقاء من دول العالم الثالث الفاقد رأسه الآن وكذلك من الأهل وذوي القربى ممن ظلمهم أشد مضاضة.
ومرة أخرى تتأكد تلك الحقيقة البسيطة: إن صورتك في العالم ولدى الآخرين لا يمكن أن تكون أفضل منها في بيتك، وإن الانقسام الداخلي لا يجد علاجه الشافي في حلول خارجية وإن ما أخذ بالقوة لا تعيده الشفقة على البلد الضعيف.
وصورة لبنان البائسة تزيدها سواداً معطيات الوضع العربي الراهن، حيث يعيش الكل فرحة انتصارهم لريغان وانتصارهم به، ويترقبون أن يمد يده بالحلول السحرية لجميع مسائلهم، في حين تشغل “الصديق الكبير” هموم أخرى ليست عربية بأي حال!
هو حديث أحزان في يوم فرح؟!
لكنه حديث عن الواقع وفيه، لكي نعرف، مرة أخرى، إن الإنسان بما صنع
وبهي هو حضور الجنوب ومشرق وفواح بعطر الليمون والشهادة، ولكنه لا يستطيع أن يعوض غياب الآخرين، لاسيما أولئك الذين لا بد من حضورهم، في الداخل والخارج.
وحديث الخارج أي المحيط العربي، طويل، ولنا إليه عودة قريبة، قبل أن تسبقنا طبول الحرب الأخرى التي يبدو أن الإدارة الأميركية قد قررت إشعالها من أجل مزيد من الاستنزاف لهذه الأمة حتى لا يبقى لها من هويتها ومن حقائقها الأساسية شيء، وحتى تعلن التوبة عن الحلم، مجرد الحلم بدولة أو وحدة أو تحرر أو استقلال جدي…
فخيارها محدد: إما الذوبان نتفاً في المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي أو في مشروع التبعية المطلقة والسافرة للولايات المتحدة، وفي كلتا الحالتين كطوائف ومذاهب وعشائر. ومجاميع من الأقليات المقتتلة وليس كشعب واحد أو حتى كأمة قيد التأسيس كما أفتى ذات يوم بعض خبراء القوميات في الشرق البعيد.
وبرغم كل شيء كل عام وأنتم بخير ولنحفظ بيروت حتى يبقى لنا الجنوب، نجمة صبح مبشرة بغد جديد للبنان الموحد والمستقل كما لسائر أنحاء الدنيا العربية الوسيعة.