طلال سلمان

على الطريق أحزاب الفولكلور اللبناني!

الجمهورية الثانية ما زالت بكماء، حتى هذه اللحظة، وهي تحاول أن تألف النطق وتستعيد الوعي بمعنى الكلام، من جديد.
إنها بلا روح، تقريباً، لأنها بلا حركة سياسية، حتى الآن،
بالكاد صار لها هيكل حكم، ولكنها تفتقد المعارضة التي تكمل الحكم فتجعله مؤسسة، وتستولد الصراع السياسي بتحديد أوجه الخلاف بين فئات الشعب المتفقة على الثوابت الوطنية والمتعارضة في أساليب عملها وفي أهداف “نضالاتها” والشعارات، فتتنافس وتتبارز – ديموقراطياً، أي سلمياً – على السلطة فتكون الحركة والبركة.. بركة الوزارات والنيابات والمنافع وسائر أمجاد القمة!
إن النشاط السياسي، حتى الآن، شكلي وشخصي، ولذا فهو يقتصر على نتف من “الحرتقات” والمناكفات والذكريات الشاحبة والتقاليد التي مضى زمانها فصارت مستهجنة!
لقد أفقدت الحرب لبنان، في جملة ما أفقدته، إحدى مميزاته الباهرة وهي: إن شعبه مسيس، وإن الهامش الديموقراطي فيه (وبكل الملاحظات عليه) يتسع لتلاوين من الصراع، بين رتل من الاتجاهات والتيارات ذات المطامح الفكرية وبين طابور من التنظيمات الطائفية والمذهبية والزعامات العشائرية القبلية ذات الجذر الإقطاعي.
.. وكان ذلك كله يشكل الفولكلور السياسي اللبناني الذي تتمثل فيه مختلف العقائد والايديولوجيات وكذلك الأنظمة العربية والقوى الدولية بـ “عينات” لها شكل الأحزاب وأطرها التنظيمية وإن تلطت خلف بعضها أو تموهت ببعضها أجهزة مخابرات “أليفة” و”بلدية” يسلم “الجمهور” بوجودها.
ولقد التهمت الحرب الأحزاب، لاسيما العقائدية منها، بعضها سقط سهواً وبعضها الآخر استهلكته غلبة الطائفية على الايديولوجيا، وبعض ثالث انتحر حين حول تشكيلاته إلى ميليشيا مسلحة.
لم يكن في جبهات الحرب مكان “للعلمانيين” و”الديموقراطيين”، فقاتلوا في الغالب الأعم تحت قيادات طائفية تموه نفسها برايات زاهية “للقضية” التي سرعان ما استهلكت وفقدت وهجها المقدس.
وقبل الحرب، لم يألف الحكم في لبنان أن يعطي للحزبيين، وبالتحديد للعقائديين، أي موقع في السلطة، اللهم إلا بعض رموز التنظيمات الطائفية المسماة أحزاباً.
كانت الأحزاب العقائدية، طوال تاريخ الجمهورية الأولى (؟) معارضة تتراوح مطالبها بين المناداة بتطوير النظام وبين العمل (علناً وسراً) لخلعه وإسقاطه.
أما الآن، وفي ظل سلام الجمهورية الثانية، المضروبة في الطائف، فقد تحولت معظم الأحزاب العقائدية، بين ليلة وضحاها وبسحر ساحر، إلى أطراف مشاركة في الحكم بغض النظر عن نسبة مشاركتها وعن كلفة “المحاصصة”.
وهذا تطور دراماتيكي من بين نتائجه إنه عطل ما كان تبقى من الحركة السياسية، فمن يعارض طالما إن الكل “حاكم”؟!
إن الخروج من الحرب الأهلية كالدخول إليها والتورط فيها، له طقوسه وتقاليده والعادات الملائمة،
كيف يتحول “أبو الجماجم” و”أبو الليل” و”أبو الغضب” إلى “حضرة النائب المحترم” أو “معالي الوزير” ناهيك بالألقاب الأجل والأفخم، من غير أن تتغير العادات بدءاً بلغة التخاطب اليومي والسلوك ومراعاة البروتوكول انتهاء بمواعيد النوم والاستيقاظ ووجبات الطعام… والثياب المناسبة للمناسبة!
كيف يتحول “المقاتل” إلى “خواجا”؟!
لقد انتهى “الاستثنائي” ، وبدأت رحلة العودة إلى “الطبيعي”،
وبين العادات التي لا بد أن يستعيدها اللبنانيون بعد طول هجران : أصول الصراع السياسي بعد شطب السلاح والمال والغريزة والتحالفات غير المألوفة كعناصر جذب واستقطاب للقطيع المهتاج بحمى الثأر للكرامة الجريح.
وبين ما لا بد من التسليم به إن الأحزاب العقائدية العريقة والتاريخية قد ابتعدت أكثر مما يجب عن العمل السياسي بأصوله الديموقراطية المألوفة والمعروفة.
وليس من باب الإدانة أو المحاسبة اعتبارها جميعاً بحاجة إلى إعادة تأهيل. لقد بدلت جمهورها، وبدلت لغتها وأساليبها وشعاراتها، وبدلت تحالفاتها ومواقعها… وبالكاد بقي منها الاسم وربما القيادة الطويلة العمر،
لقد أعادت الحرب صياغتها جميعاً فجعلتها غير ما كانت، وبدلت من دورها والمهمات التي تطرحها على نفسها،
ومكابر من يزعم، بين الأحزاب، إن بنيته التنظيمية ما زالت سليمة، وإنه قادر على لعب الدور السلمي (الديموقراطي) بالكفاءة ذاتها التي مارس بها الدور الحربي (الميليشياوي)..
والحكم آخر مكان ينفع الأحزاب لإعادة تأهيل ذاتها، فالحكم محرقة للعقائد والفلسفات الخالدة فكيف بالحزبيين من خريجي مدرسة الفولكلور السياسي اللبناني.
لقد استولدت الجمهورية الثانية عبر لعبة تعيين النواب نواة المعارضة السياسية ممثلة بالحزب الشيوعي اللبناني، الذي لم ينل أمينه العام جورج حاوي، بركة أصحاب القرار، والاتحاد العمالي العام، وكل تلك القوى والفئات الرافضة لمبدأ التعيين أو لأشخاص المعينين.
وقوة المعارضة من قوة الحكم لا من ضعفه،
وبالمقابل فقوة الحكم من قوة معارضته لا من ضعفها،
وأفضل ألف مرة لأمين عام الحزب الشيوعي أن يكون معارضاً بالإرادة الحرة وبالتصميم على نضال شعبي حقيقي من أن يجيء نائباً بالتعيين.
فالتعيين يعني، مهما لطف معناه، الخروج من الحزب أو الخروج عليه أو القرار بحله.
وحزب شيوعي بلا نائب أفضل للجمهوريات جميعاً من نائب ثمنه الحزب!

Exit mobile version