قبل سبع سنوات تماماً صدر العدد الأول من “السفير” حاملاً في صدر صفحته الأولى، وإلى جانب الحمامة البرتقالية، الشعار – الخط والنهج: صوت الذين لا صوت لهم، جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان.
وكنا نفترض أن صدور “السفير” سيعزز مكانة الصحافة ودورها في لبنان وفي الوطن العربي، وعلى هذا بذلنا أقصى الجهد لنكون في مستوى الطموح، بحيث نضيف شمعة إلى الشموع التي تشق بضيائها عتمة عصر الردة والتردي، ونفتح في جدار العسف وصمت الرعب أو الدنس كوة نطل منها – مع الناس – على غد أفضل، بعد غد أفضل، بعد بغد غد أفضل…
اليوم، وبعد سبع سنوات عربية عجاف، نفتقد حتى الرغبة في لحظة فرح بما أنجزت “السفير” فالفرح في هذا العصر صار ترفاً لا يقدر عليه أي إنسان يحمل في قلبه ووجدانه وعلى سن قلمه هم وطنه وأمته الجريح.
لقد قامت “دار السفير”، ودارت مطابعها الخاصة – أخيراً – بالكلمة التي نؤمن إنها الحق أو هي تخدمه، ولكن ليل الحزن والقهر والظلم أعتى من أن يسمح لنا بلذة الامتلاك… فماذا أن تكون لديك مطبعة والوطن برمته يكاد يستحيل رماداً أو سراباً وسط غابة يقعقع فيها السلاح المشرع بغير قضية، أو بالأحرى في وجه القضية؟!
وماذا أن تكون للجريدة دار والصحافة تواجه خطر الانقرض والاندثار، في الوطن العربي عموماً وفي لبنان على وجه الخصوص؟!
ذلك أن بين أهداف أسياد هذا العصر ، عصر الردة والتردي، أن يقضوا على الكلمة بوصفها سيفاً في يد المحكوم وبابا للحرية ونبراساً يضيء العقل بالمعلومات والوقائع والآراء والآراء المضادة، وعلى هذا فهم يقاتلون – بالمال أولاً ثم بالعبوات وكواتم الصوت والمخابرات وفرق الاغتيال – لاجتثاث الصحافة من جذورها، باعتبارها عنواناً للحريات العامة.
وهكذا لم يعد الحلم هو إصدار صحيفة، بل الحفاظ على استمرارية صحيفة مثل “السفير”.
الحلم أن نحمي من الصحافة وللصحافة بعض الحصون في خط الدفاع الأخير عن طموحات الأمة وشرف إنسانها الذي يدرك الآن – وبوضوح قاطع – إن الخبز والكرامة والوحدة والتقدم والانتصار على الثالوث العد. الإمبريالية والاستعمار والصهيونية، معركة واحدة لقضية واحدة، فهذه الأهداف جميعاً كل لا يتجزأ والديمقراطية هي شرط النصر بها يكون وبغيرها لا يكون.
وبقدر ما تعتز “السفير” بالشهادات التي تقال في نجاحها، سياسياً ومهنياً، بقدر ما يحزنها أن تصنف كواحدة من أهم الصحف العربية، إن لم تكن الأهم. ذلك أن هذا التصنيف هو في جانب أساسي منه إعلان صريح عن الوضع البائس الذي نعيشه الصحافة العربية – بمجملها – والذي يفرض عليها أن تمشي عكس التاريخ فتبقى خارج دائرة اهتمام شعوبها، ومجرد نشرات خاصة بالحكام ومن يحكم الحكام.
لم تعد الصحافة مهنة المتاعب، ولا حتى المنافي، كما كانت توصف ذات يوم، لقد باتت الصحافة هي اللعنة، هي المحظورات والممنوعات، هي مصدر الخطر: أفليست هي الشمعة الباقية في عصر “طفي النور”؟!
وما من شك في أن كثيرين من شبابنا الذين كانوا يطمحون لأن يكونوا صحافيين قد عدلوا، أو وجدوا من ينصحهم ويهديهم بالتخلي عن هذه الفكرة المجنونة التي تضعهم دائماً في نقطة وسط بين الموت صمتاً أو الانتحار العمدبين القيمين على سلامة الأمة!
وما من شك أيضاً في أن الصحافة، العربية عامة واللبنانية على وجه الخصوص، لم تعد تواكب ركب التطور، بل هي تتراجع يومياً، على الصعيد المهني، ذلك أن التقدم هنا – كما في أي مجال – لا يمكن أن يتم في ظل الانسحاق الوطني والقومي، وفي مستنقع الشعور الطاغي بالهزيمة وبالعبثية وبتساوي الجميع في عدم الجدوى.
لقد تم تدمير الكثير من المؤسسات الصحافية ذات التاريخ البارز على صعيد تقدم المهنة، وانتهى بكشل أو بآخر جيل من الأساتذة والرواد من الصحافيين الكبار الذين حملوا لفترة – وعلى تفاوت في مستوى الوعي وحرارة الإيمان – هموم أمتهم في قلوبهم واندفعوا يناضلون من أجل تحقيقها بأشكال النتائج الصحافي المتعددة والقادرة على الوصول إلى الناس… الناس البسطاء والعاديين.
وجاء جيل من كتبة السلاطين، ومن سيافيهم المتميزين – بشكل عام – إضافة إلى ضيق الصدر والأفق بامية فاضحة، تبدأ بجهل اللغة وقواعدها وتنتهي بجهل مطبق في التاريخ والجغرافيا وعلم السياسة.
وبرزت مشكلة موضوعية حادة عنوانها: من يعلم الصحافيين أو الراغبين في أن يكونوا صحافيين أصول مهنتهم، ومن يحمي لهم تقاليدها العريقة، ومن يربي في صدورهم الشعور باحترام الكلمة، ومن ثم باحترام الرأي والتمييز بينه وبين الخبر، ومن يحرضهم على أن يكون ولاؤهم، بالفكر والعاطفة والقلم، للوطن لا للطوائف، وللقضية والمبادئ وليس “للزعماء” الغر الميامين.
في عيد “السفير” نطلقها صرخة: إن الصحافة مهددة في وجودها ذاته، وليس في دورها فحسب.
إن الصحافة، وهي الرئة الأخيرة الباقية ولو معطوبة، تعاني حالة من الضعف والقصور وافتقاد النصير والرعب تشل قدرتها على التطور، ومن ثم الاستمرار.
لقد شنت على الصحافة عموماً، وصحافة لبنان خاصة، حملة شرسة وظالمة وصلت إلى حد تحميلها مسؤولية الحرب التي تلد منذ سنوات حروباً، وما زالت الحملة مستمرة حتى لقد باتت حياة الصحيفة هي المسافة الفاصلة بين عبوتين ناسفتين.
ومن هنا فإن حماية الصحافة، وفي لبنان تحديداً، مهمة وطنية وقومية، نبيلة وضرورية لنستمد القدرة على أن نحلم بغد أفضل.
وإذا كانت بين مزايا عصر الردة والتردي محاسبة الناس على أحلامهم، إضافة إلى الأفكار، فالأمل هو في أن يستطيع الناس، بسطاء الناس، أولئك الذين لا صوت لهم، أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه من حقهم بالحياة.
وتوكيداً لإصرارنا على حقنا في أن نحلم بغد أفضل، بنينا لـ “السفير” دارها وأعدنا ترميم نا تخرب من مطابعها المنسوفة، لتبقى ما كانته دائماً صوت هؤلاء الذي يقمعون فيحرمون من ممارسة الحياة الكريمة وكذلك من حق الحلم بها.
وسنظل نحلم، معاً، ونعمل معاً من أجل غد أفضل، بعد غد أفضل، بعد بعد غد أفضل: لا تهم المسافة، المهم الاطمئنان إلى أن أجيالنا الآتية لن يعيشوا عبيداً للمحتل أو المستعمر أو المحتكر أو صاحب السلطانز
وسنظل شاهداً على هذا العصر، نحاول أن نقول الحقيقة، بالكلمة مرة وبالصمت مرات، وستظل تشدنا إلى التاريخ علاقة صدق حميمة فنجاهد حتى لا نتورط في زور أو تزوير، وحتى لا نقول أبداً، وتحت ضغط أي ظرف غير ما نؤمن به.
ومرة أخرى، وعلى عتبة العام الثامن، تجدد العهد: أن تبقى “السفير”، جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان، صوت الذين لا صوت لهم، صوت الحالمين الحاملين في قلوبهم وضمائرهم هم الغد الأفضل لأمة مجيدة.