برغم الخسارة، التي أدمناها، فإن اشتراك الفريق المصري في مباريات كأس العالم بكرة القدم، في إيطاليا، قد كشف عن مجموعة من الحقائق البسيطة التي كان رماد الهزائم السياسية والعسكرية والفكرية قد غطاها تماماً أو أعمانا عنها.
أولى تلك الحقائق وأنصعها وحدة هذه الأمة من محيطها إلى الخليج.
فليس من عربي، في المساحة الممتدة بين اليمن والمغرب الأقصى، إلا ونسج من عواطفه غلالة من حرير وباقة من ورد لفريق مصر العائد بن طول غياب (باسم العرب جميعاً) إلى الساحة الدولية،
وليس من عربي، على امتداد الأرض العريبة، إلا وحبس نفسه مع أسرته أو أصدقائه في مواعيد المباريات التي لعبها فريق مصر ليكون إلى جانبه، ولو بعاطفته، وبالدعوات الصالحات، تعبيراً عن فرحته بعودة مصر واعتزازاً بفريقها وجهده من أجل تحقيق نصر ما.
من يفهم في كرة القدم ومن لا يعرف شيئاً من أصولها وفنونها،
من يهوى الرياضة ويتحمس لممارسيها ويحترف تشجيع “أبطالها” والنجوم ومن لا يهتم بالرياضة والرياضيين إطلاقاً،
العجوز والشيخ، الرجال والنساء، الصبايا والفتيان الأغرار الذين لم يعيشوا حالة النهوض القومي، والذين لم يسمعوا عن العروبة والوحدة والقومية إلا ما ينفرهم منها وما يبعدهم عن “أوهامها” المخدرة،
كل هؤلاء عاشوا مع فريق مصر في صعوده وهبوطه وكأنهم أهله الأقربون.
وفي بلد كلبنان كان يمكن رصد التجليات الجديدة للحقائق القديمة الباقية..
لقد تجاوز الناس بأكثريتهم الأديان والطائفيات والمذهبيات، تجاوزوا الخصومات السياسية، أسقطوا من حسابهم التحفظات المبدئية وغضوا النظر عن كمب ديفيد والصلح المنفرد وباقي التراث الساداتي، وتعلقت قلوبهم وأعصابهم بأقدام ذلك النفر من فتية مصر،
فجأة ومن دون طلب أو استئذان دخل شوبير ومجدي عبد الغني و”الكأس” وعبد الحميد والأخوان حسام وإبراهيم حسن وطاهر أبو زيد الخ القلوب والبيوت وصاروا الأعز بين أفراد العائلة،
قبلهم كان مدرب الفريق “الجوهري” قد احتل صدارة الاهتمام والأحاديث واستحق التقدير والثناء والاعجاب لأنه أثبت إن الإرادة هي طريق النصر،
وبرغم إن فريق الإمارات طري العود، بعد، فقد أعطاه العرب من عاطفتهم الكثير، وسجلوا لهذا الفريق الفتي إنه تعب فوصل إلى مباريات كأس العالم،
استفاق العرب إلى حقيقة إنهم “عرب”، من وصل منهم إلى روما فإنما باسمهم جميعاً وصل، وباسمهم جميعاً لعب، سواء أفاز أم جانبه الحظ فلم يفز.
واستفاق العرب إلى حقيقة إن مصر مستقرة في وجدانهم وفي قلوبهم وفي واقع حياتهم، يتطلعون إليها وينتظرون منها وتتعلق بها آمالهم في الحرب والسلم، في الثقافة والرياضة، في الأدب والفن،
فمصر أكبر من حاكمها، كائناً من كان، وأبقى،
ومصر هي “أم العرب” وحشدهم ونخبتهم وبها وعبرها يصلون إلى العالم ويكون لهم فيه مكانة ومكان،
واستفاق العرب إلى حقيقة إن سنوات التجافي والتباعد والقطيعة والمقاطعة لم تستطع تدمير أجيالهم الجديدة وإخراجها من جلدها أو من بشرتها السمراء!
لعل تلك السنوات العجاف، والتي قد تستمر زمناً، قد أدت إلى نقيض ما “توقعوا” منها، إذ هي كشفت حاجة كل عربي، إلى الآخر، وحاجة العرب جميعاً إلى وحدتهم، بأي قدر وعلى أي مستوى.
لقد أعادت “الأرجل” توكيد الحقائق التي كانت غدت موضع نقاش لدى أصحاب “العقول” من دعاة “الواقعية”، وضرورة الاعتراف بالقطريات والخصوصيات الكيانية وكأنها بداية التاريخ ونهايته.
ولقد كشفت “الأرجل” كم يتشهى العرب النصر، أي نصر، وكم يتحرقون من أجل تحقيقه في أي مجال… بما في ذلك كرة القدم.
فمن “رأفت الهجان” إلى “محمود الجوهري”، مروراً ببعض شخصيات مسلسل “الراية البيضاء” و”ليالي الحلمية”، تبدى بوضوح كم يتعطش العربي إلى بطل ما، إلى منتصر ما، إلى قادر ما، إلى مواجه ما، سواء في المخابرات أم في الكرة أم في الحياة اليومية،
لقد وقف العرب مع فريق مصر لأن أولئك الفتية السمر قد ساعدونا على التخلص من عقدة الدونية ومن التحسب الدائم لهزيمة أخرى مقبلة، ومن افتقاد الإحساس بالجدارة وبالقدرة على ممارسة الندية مع “الخواجات” سواء أكانوا أميركيين أم غربيين، أم إسرائيليين، وهنا بيت القصيد،
لسنا أقل من غيرنا،
لسنا مخلوقين للهزيمة، ولسنا منذورين لها،
لسنا كمية مهملة لا دور لنا ولا هيبة في العصر الأميركي (الإسرائيلي)،
والأهم: إننا لسنا بالبؤس الذي يعكسه واقعنا السياسي، فما زالت فينا بقية من رمق، وما زلنا قادرين على تجاوز هذا الواقع.
ولا بأس إن كنا بدأنا من تحت،
المهم أن نتخطى حاجز الياس الذي بات قبراً نكاد نئد أنفسنا فيه،
المهم أن نتابع المحاولة،
المهم أن نرفع رؤوسنا ونقول: لا!
ولتكن كرة القدم، بنتائجها، البداية، مجرد البداية،
وعودة الروح لن تتأخر إذا ما استعدنا الوعي، وإذا ما قطعنا الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، في اتجاه النصر الصعب والمكلف ولكنه لا يجب أن يكون مستحيلاً،