ليست لدينا أوهام حول حجم الأزمة الراهنة بين بيروت وواشنطن، أو حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه.
فلسنا ممن يطالب لبنان أو يتوقع منه، بالتشنج أو بالسذاجة، لا فرق، إعلان الحرب على الولايات المتحدة الأميركية، أو اللجوء إلى تدابير صارمة من نوع قطع العلاقات أو طرد الرعايا أو تهديد المصالح المباشرة لها، أو حتى التوقف عن السماح لبحارة الأسطول الأميركي بأن يجيئوا ليتولوا بأنفسهم حراسة مبنى السفارة الأميركية في بيروت وكبار موظفيها، إضافة إلى عناصر القوات المسلحة اللبنانية من جيش ودرك وشرطة وأمن عام الخ…
كذلك فلسنا نتوقع تغييراً أو تعديلاً في السياسة الأميركية نتيجة لهذه الأزمة، لا بالسلب ولا بالإيجاب. فما جرى مع الوفد اللبناني الرسمي في نيويورك ليس أكثر من تعبير عن الخط الثابت والمعتمد للسياسة الأميركية في معالجة قضية فلسطين خاصة، وما يسمى بأزمة الشرق الأوسط عامة.
فكيف يمكن أن تنفتح أبواب البيت الأبيض لرئيس لبنان المنتدب عربياً ليقول كلمة فلسطين، بينما المندوب الأميركي في الأمم المتحدة يتصدى – وحيداً – للدفاع عن إسرائيل، ولمنع صدور قرار – مجرد قرار – يؤيد الحقوق الثابتة لشعب فلسطين في أرضه؟.
على إن ما يحق للبنان أن يطلبه، الآن، ممن انتدبوا رئيسه “للمهمة القومية المقدسة” هو أن يساندوه في (معركة الكرامة) التي يخوضها الآن مع واشنطن، والتي لا أحد يتصور أن تنقلب إلى حرب أو قطيعة كاملة.
وليس شرطاً أن تتهاطل بيانات التأييد لموقف سليمان فرنجية والشجب لموقف جيرالد فورد،
ولكن الضروري هو أن تعكس تصرفات التسعة عشر ملكاً ورئيساً، إزاء واشنطن والرئيس الأميركي و”العزيز هنري”، إحساسهم جميعاً بأنهم المقصودون بالتصرفات غير اللائقة التي استقبل بها الرئيس اللبناني في مطار كيب كيندي.
فغياب المسؤولين الأميركيين، مثلاً، عن الاستقبال لا يبرر إطلاق الكلاب البوليسية ومعاملة الوفد الرسمي المرافق – بغض النظر عن أشخاص أعضائه – وكأنه جماعة من المهربين!
لقد كان سليمان فرنجية في نيويورك موفداً عربياً، وبهذا المعنى فإن ما لحق به يمس سائر الملوك والرؤساء العرب،
ولا أقل من أن يظهر هؤلاء الحكام تعاطفهم الجدي والعملي مع رئيس لبنان الذي عرضه قبوله القيام بالمهمة القومية المقدسة، كما وصفها، إلى ما تعرض له في نيويورك.
فليس بين لبنان اللاعربي أو اللامنتمي وبين واشنطن أي مشكلة،
وبهذا المعنى فإن الإهانة موجهة إلى انتماء لبنان، إلى عروبته التي أعطته قضية فلسطين مناسبة تاريخية لتأكيدها وإعلانها من فوق أرفع منبر دولي.
ومن واجب العرب ألا يتركوا لبنان يحس، ولو للحظة، إنهم يتخلون عنه أو يترددون في دعمه بينما هو يؤكد ليس فقط إنه لهم وإنه معهم، بل قبل ذلك كله: إنه منهم.
فالمعركة الحقيقية هي في تأكيد عروبة لبنان،
وإحدى جولاتها، هذه الأزمة مع واشنطن،
لكن النتيجة تتحدد في القاهرة ودمشق والرياض وبغداد والجزائر وتونس والرباط،
… ومرة أخرى: ليس المطلوب إعلان الحرب على الولايات المتحدة الأميركية، ولكن المطلوب إثبات الترابط القومي – ولو في حده الأدنى – ، وهو هنا الالتزام بالموقف اللبناني من واشنطن،
وبيروت أعقل طبعاً من أن تحرج نفسها أو تحرج العرب… أو تحرك أصدقاءها الدائمين في واشنطن ذاتها!