إذا كان العرب جميعاً يفتقدون، الآن، كأشد وأمر ما يكون الافتقاد جمال عبد الناصر وقيادته الثورية لهذه الأمة، و”يلومونه” ويكادون يحاسبونه على موته، فإن اللبنانيين منهم هم الأكثر إحساساً بوطأة الغياب المفجع للقائد والمعلم والزعيم…
ولعل اللبنانيين في هذا يتساوون مع الفلسطينيين إذ كان عبد الناصر يجسد لهم الأمل في تأكيد انتمائهم إلى وطن حقيقي وغلى أمة عظيمة.
ومن زاوية معينة يمكن اعتبار العلاقة بين عبد الناصر واللبنانيين نموذجية: فهو لم يكن في أي يوم لبنانياً، بل إنه لم يزر لبنان قط، وإن كان التقى فؤاد شهاب في الخيمة الشهيرة على الحدود مع سوريا، ولكنه مع ذلك وبرغم ذلك عاش ومات وهو الزعيم المطلق للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وأغلب الظن إنه لا يزال بطلهم التاريخي والحقيقي إلى حد التماس والتداخل مع الأسطورة.
ويستعيد اللبنانيون ، هذه الأيام تحديداً، صورة فذة لعبد الناصر في مناسبتين: الأولى إبان أحداث 1958، والثانية عند الصدام الأول بين السلطة والمقاومة الفلسطينية عام 1969.
لم يكن عبد الناصر محايداً، عام 1958، ولا كان ممكناً أن يقبع في قوقعة الحياد. تصرف بالضباط كما يفترض بالقائد الثوري، فانحاز إلى جانب الحركة الشعبية بأهدافها التحررية والتقدمية ضد التسلط والتدخل الأجنبي… وكان منطقياً أن يوظف، من بعد، ثقله من أجل الوصول إلى حل سياسي يحقق ما أمكن من مطالب الجماهير الوطنية في لبنان وطموحاتها.
بكلمة أخرى: لم يصبح عبد الناصر لبنانياً، ولكنه تعامل مع الأزمة اللبنانية كحدث قومي، وانحاز إلى الجانب المتقدم من أطراف صراعها، فساعده على كسر “المعادلة” السابقة على 1958، وانتزع الاعتراف الدولي بعروبة لبنان وبحق العرب في المشاركة كلياً في تقرير مصيره، ثم ترك له أن يحقق على المستوى المحلي ما تتيح له قوته الذاتية أن يحقق…
كل هذا مع تجنب الانغماس في اللعبة الطائفية القذرة، بل مع رفضها ومقاومتها مؤكداً تقدمية المسلك القومي للقيادة الناصرية.
وفي أحداث 1969 لم يكن عبد الناصر محايداً، كان منحازاً لدور لبنان القومي وللأخوة اللبنانية – الفلسطينية، وأيضاً لسلامة لبنان ووحدة شعبه… وهكذا وظف ثقله في خدمة هذه الأهداف فكان اتفاق القاهرة الذي وافقت عليه أكثرية اللبنانيين الساحقة (بمن في ذلك الكتائب بشخص رئيسها بيار الجميل).
مناسبتان وموقفان:
في الصراع المحلي وقف عبد الناصر مع الحركة الشعبية ومع أهدافها التقدمية، وضد الطائفية وضد مقولة لبنان السياحي وغير المنتمي. فإن نرضى بخطى لبنانية أبطأ من خطى غيره من الأقطار العربية شيء، والقول بأن العروبة والثورية والواجب القومي أعباء على لبنان شيء آخر.
وفي الصراع اللبناني – الفلسطيني وقف عبد الناصر مع القاسم المشترك بين الطرفين وهو دور لبنان القومي في المعركة ضد العدو الإسرائيلي مع الحرص على سلامته ووحدة بنيه.
لم يوجه عبد الناصر نداء إلى بيار الجميل، ولم يستحلفه بتراب حدوده، ولكنه أدان مسلكه الطائفي علناً وسفهه وتحداه بقوة التيار الشعبي الوطني التقدمي في لبنان ذاته.
ولم يشن عبد الناصر حملة على المقاومة الفلسطينية بينما هي منغمسة في قتالها البطولي ضد العدو الإسرائيلي، وأيضاً في صراع جانبي فرضه عليها بعض أطراف السلطة اللبنانية وبعض أدوات اللعبة الطائفية القذرة، بل طالبها – وعلناً – بموقف قومي وثوري مسؤول، وبقوة هذا الموقف، أساساً، تم الوصول إلى اتفاق القاهرة.
لهذا صار لبنان ناصرياً بأكثريته خلال وبعد أحداث 1958.
ولهذا صار لبنان ناصرياً بكليته بعد أحداث 1969، وتجلى ذلك واضحاً بينا عندما فجع العرب بخسارة قائدهم العظيم بعد أقل من سنة.
لم يكن عبد الناصر لبنانياً أو فلسطينياً. كان عربياً وكان قائداً ثورياً، وعندما التقى عند التسليم بقيادته اللبناني والفلسطيني والمصري والمغربي والليبي والعراقي والسوري… الخ فإنما كانوا يلتقون على الإيمان المشترك بوحدة الانتماء ووحدة المصير ووحدة الطموحات والآمال العراض.
ومع الحزن العميق بافتقاده ، وذكرى غيابه الخامسة تجيء، بينما أرض لبنان تغطيها دماء بنيه وأشقائهم الفلسطينيين، فإن اللبنانيين والفلسطينيين وسائر العرب يتعزون بشيء واحد: إنه ترك لهم نواميس للعمل ومناهج ومبادئ وخبرات عظيمة تنير طريقهم إلى المستقبل الذي أرادوه لأنفسهم وحملوه مسؤولية تحقيقه.
… وإن كان مما يزيد الحزن والحسرة واللوم والقسوة في محاسبة القائد الذي غاب إن الذين حلوا محله لا يفعلون شيئاً غير محاولة قتله فينا، وقتله في ضمير الأمة، حتى لو كلفهم ذلك إبادتنا نحن وتدمير حاضر أمتنا المجيدة ومستقبلها، الذي يحيط به الآن ضباب كثيف، شبيه بذاك الذي يرافق بزوغ الفجر الجديد.