طلال سلمان

على الطريق عبد الله السلال: انطفاء حلم يمني…

مظلوماً ومقموعاً عاش، حاكماً ومحكوماً “حكم” مقهوراً ومسحوقاً “خلع” و”نفي”، مطموساً ومدّخراً لتزيين الاحتفالات “أعيد” إلى منزله في صنعاء، وكمداً مات، أمس، آخر الثوار الرومانسيين العرب عبد الله السلال.
قلة يتذكرون اسمه، وأقل منهم من يتذكر دوره، لكن التاريخ يحفظ له قطعأً أنه ذلك المقاتل الأسطوري الذي أخرج اليمن من جحور الجاهلية وعصور ما قبل التاريخ في ظل الإمامة الملكية لآل حميد الدين، وأدخلها رحاب “الجمهورية” بالثورة وبمحاولة اصطناع فجر جديد لشعبها الذي كان “الفتح” الإسلامي آخر “حضور” له على المسرح وآخر مساهمة في الحضارة الإنسانية.
ولو خيّر عبد الله السلال في لحظة رحيله عن هذه الدنيا لما اختار غير الأمس، حتى لا يكون شاهداً على انهيار الحلم الجميل على رؤوس اليمنيين بأيدي الذين شوهوا “الثورة” ووأدوا “الوحدة” وها هم يهددون بتقويض “الجمهورية” بل اليمن ذاتها.
في العشرين من أيلول 1962 التقينا على غير موعد، وإن كنا مدفوعين بالحرص ذاته على أن نشهد البعث المقدس للجزائر العربية: كانت ثورة الجزائر تتوج انتصارها في معركة الاستقلال بإجراء أول انتخابات عامة لأول جمعية تأسيسية ، تلك التي سيوكل إليها أن تختار أول حكومة وأول رئيس لجزائر ما بعد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
كانت أرواح “المليون شهيد” تظلل تلك العاصمة الجميلة كيمامة بيضاء موشحة الجناح بالأزرق الداكن. وكان عبق الثورة التي كشحت التراب عن حقيقة وحدة الأمة يملأنا بالفخار وعزة الانتماء العربي، فيتهدج صوت المجاهد العراقي صديق شنشل وتنساب دموعه في أخاديد وجهه المختزن أحزان قرون من الذلة والضياع، ويتنقل بين “النواب” و”نجوم الثورة” الذين لا يعرفون العربية يقبلهم بعيونه وينحني على يد جميلة بوحيرد ليتبرك بها!
مضت أيام ونحن نسعى بين الثوار نشهد تحولهم إلى حكام: نواب ووزراء ومحافظين وقادة مناطق ورؤساء، وهم يتفرجون على “بر الشام” عبر هذا العراقي وهذا اللبناني وكلاهما أتى بلا دعوة.
ذات عصر جاءني صوت صديق شنشل عبر سماعة الهاتف مثقلاً بفرح لا يكتمل إلا بالبكاء: – عيني ما تدري، أكو ثورة في اليمن، ثورة في اليمن… عيني، هذه أيام المجد العربي تعود، أخاف قلبي ما يتحمل، ها هي الأمة تستعيد الجزائر واليمن معاً في وقت واحد. لم أكن أطلب من حياتي أكثر. لو مت اليوم لرحلت مطمئناً إلى غد أبنائي، أبنائنا جميعاً.. لاسيما أنتم في لبنان!
لا يمكن استعادة اللحظة . لا يمكن إعادة كتابة تاريخ الثورة المظلومة في سطور. لا يمكن إنصاف عبد الله السلال ورفاقه من بيروت.
ماذا يعني أن تقول أنه كان أول رئيس لجمهورية اليمن التي أعلنها “بلاغه الأول”؟! أو أن تستذكر صورته التي لم تتغير كرئيس، ثم كرئيس سابق يعيش لاجئاً سياسياً في القاهرة، بعدما فرضت خلعه الهزيمة في 5 حزيران 1967 والمساومة مع السعودية لاستنقاذ “الجمهورية” في اليمن ثم استبقته “الضرورة” مواطن شرف “يكرم” بأن يدعى إلى الاحتفال السنوي بذكرى ثورته، أو يستشار أحياناً، ويحمل ليشهد على المواثيق، وآخر ما شهد عليه “وثيقة العهد والاتفاق” بين “حكام” اليمن المتحاربين والتي ما إن جف حبر التوقيع عليها تحت الرعاية الملكية في عمان حتى طمسها دم الانفصال المستشري كالسرطان والمهدد بتمزيق اليمن شطوراً ومحميات وقبائل شتى؟!
الثورة… ذلك المجهول.
نتحدث عنها كثيراً، ننظم فيها الشعر، نخطب، نكتب، نحاضر فيها، ولكننا نبقى على بابها المرصود، لا نحن ندخلها تماماً ولا نبقى تماماً خارجها!
لكننا ندر أن عرفنا الثورة وإن كنا قد عرقنا كثيرين حكمونا وحاكمونا باسم الثورة… ثم اندثرت الثورة وبقوا، واكتشفنا أنها إنما كانت بطاقة عبور ليس إلا.
ما بين الثورة والحكم مسافة فلكية، كمثل إطلاق رصاصة… فحتى لو ضمنت أنك نجحت في إطلاقها فليس ذلك دليلاً حاسماً لا على دقة التصويب ولا على سلامة الوجهة ولا على إصابة الهدف.
ولقد شهدنا من الثورات أنماطاً حتى صرنا خبراء محلفين وصار بإمكاننا الجزم بأننا عرفنا كثيراً جداً من الثوار وأقل القليل من الثورة.
كنا نفرح بانهيار ليل الماضي، ونبشر بالنهار. نعلن ولادته ولكننا لا نعرف كيف نصطنعه. ولم تكن الأحداث تمهلنا من أجل أن يتقدم من موكبه بوقار الجلال وإيقاعه البطيء ونوره الشامل.
كان الثائر من أجيالنا التي عبرت يعرف مصدر الظلم، ويعرف كيف يتصدى له ويقاومه، ولو بلحمه الحي. وكان يعرف أن خلع الظالم واجب شرعي كما هو ضرورة سياسية.
… فإذا ما سقط الحاكم (أو أسقط)، أسقط في يد الثوار فضاعوا في متاهة الخطوة التالية. وغالباً ما كانوا يقتتلون فتضيع اللحظة والثورة، وينصب المنتصر (من بينهم) نفسه طاغية (ظالماً) جديداً.
ظلت المعضلة: كيف: بالدقة، يكون النظام البديل؟!
كيف تمارس السلطة لمصلحة الناس؟! كيف يحقق الحكم أحلام المحكومين (وهي قد كانت أحلام الحاكمين قبل أن تفصلهم السلطة عن ناسهم)؟! كيف يظل الثائر أقوى من السلطة، والحالم أقوى من إغراء الواقع… ثمة من أين لهم ما تبدل به الحياة اليومية للناس: تبدأ البناء متأخراً عن الدنيا قروناً، تفتح المدارس ليكون لك طلاب في الجامعات التي ستبنيها؟!َ تفتح الطرق ليتصل الشعب بعضه ببعض، تقيم المستشفيات والمزارع والمصانع مستورداً أهل الخبرة “بالعملة الصعبة”!!
ومن اين لك بالمال، والأهم بالزمن، لاسيما وأن ما تطلبه في يد المستفيد من تخلفك ومن استمرار الحال على ما هي عليه، فإن أنت أخذت المعرفة منه، وهو لن يعطي إلا بالقطارة، أخذك إلى حيث كان السلف، إلى الماضي السحيق المموه بواجهة مزينة بصور عبد الناصر ولينين التي لن تلبث أن تستبدل بالهامبرغر والبيبسي كولا!!
مظلوم عبد الله السلال، ومظلومون الثوار العرب جميعاً.
لقد حاولوا اقتحام المستحيل، وقرعوا باب العصر بيد الثورة، لكن الدخول كان يتطلب أكثر من الشجاعة والاستعداد للتضحية والنوايا الطاهرة كأحلام الأطفال.
فالتحولات الاجتماعية لا تنجزها الأناشيد والخطب التبشيرية والشرطة المولجة بحراسة الموعظة الحسنة.
والتخلف وحشي السمات والتأثير. إنه ليس فقط الفقر والجهل والمرض. إنه العجز عن تصور الغد. إنه الغربة عن العصر، وهي غربة لا يعوضها إحراق المراحل. ثم إنك لست في صحراء الربع الخالي، والمتضرر من تقدمك سيقاتلك بلا هوادة حتى يمنعك من فضحه وإسقاط عرشه المستمر بقوة التخلف ذاته.
البراءة لا تلحظ في القاموس السياسي.
ولأن عبد الله السلال هو الأكثر براءة بين جميع الذين وصلوا باسم الثورة إلى الحكم، ثم خرجوا (أو أخرجوا منه) باسم ضرورة حماية الثورة ممثلة بالجمهورية، وحتى لا تعود اليمن مملكة ثانية كجارتها مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض، فهو يستحق أن يودع بما يليق من التكريم.
والتكريم أن يعرف الناس اسمه ودوره.
احفظوا اسم هذا الرجل الذي قضى شهيد “البنادرة” الذين يمتد ظل حكمهم إلى حيث يصل الريال / الدولار: عبد الله السلال.
حتى الله اليمن.

Exit mobile version