طلال سلمان

على الطريق اعتذار… إلى الشهامة الكويتية!

بيضتها الكويت، بيض الله وجوه حكامها، وصحف حكامها، وكتاب حكامها في صحف حكامها!
فبعد التبرع السخي لحديقة الحيوان في لندن، ها هي الأيادي الكويتية الخيرة تمتد بالمساعدة العاجلة والحاسمة لشعب فقير في دولة بائسة وغارقة في الدين والأزمات الاقتصادية هي الولايات المتحدة الأميركية.
ولقد سبقت تبرع الشيخ جابر الأحمد (وهو من غير المعجبين بحاتم الطائي، ولعله منم المنتدرين بتبذيره) للشعب الأميركي المنكوب بإعصار “أندرو”، حملة إعلامية من العيار الثقيل تستنفر أصحاب النخوة وتهز ضمائر رجاجل المعروف وإغاثة الملهوف، يمكن الاكتفاء هنا بعينة منها هي الآتية:
جريدة كويتية تصف نفسها بأنها “أول صحيفة تصدر بعد التحرير”، واسمها “الفجر الجديد”، خرجت صباح الثلاثاء الماضي بعنوان على عرض صفحتها الأولى (ثمانية أعمدة) مكون من سطرين ، الأول رفيع – أسود: “قوافل الخير إلى القارة الجديدة… تتويج للتواصل الإنساني” والثاني غليظ أحمر من ثلاث كلمات: “ساعدوا أصدقاءنا الأميركان”.
تحت العنوان العريض جداً، بالأسود والأحمر، مقالة مؤثرة جداً بين ما جاء فيها “لقد دمرإعصار” “اندرو” الذي اجتاح الولايات المتحدة الكثير من الممتلكات وعصف بأرواح البشر (…) كثيرون من المواطنين الأميركيين شردهم الإعصار، وعصف بأموالهم وممتلكاتهم، وتركهم بلا مأوى.. هذا الإعصار المارد الذي التهم مليارات الدولارات في ومضة عين، وترك بصماته على وجه العديد من الأميركيين لوعة وأسى الخ..”.
أول المستجيبين لهذا النداء الإنساني النبيل كان أمير الكويت فأعلن بغير تردد أو لعثمة التبرع بعشرة ملايين دولار، مفتتحاً مسيرة “قوافل الخير إلى القارة الجديدة”.
أصيل، يا شيخ جابر، فها أنت ترد التحية بأرخص منها، خصوصاً وإن مقالة بعض كتابك في صحيفتك الموما إليها قد ذكروا من تنفعه الذكرى: “من أجل كرامة الكويت سقط جنود وترملت نساء وتيتم أطفال، وعزاء الجميع أنهم قضوا في معركة الشرف من أجل أداء الواجب الإنساني (!!) الذي أججت شعلته في قلوبهم صرخة أب أو استغاثة طفلة أو نداء أم في الوطن الجريح.. الكويت”.
أصيل يا شيخ جابر، جازاك الله خير جزاء ورد عليك حسنتك دينارها بألف، بمائة ألف، بمليار، من “مال الأيتام” أو من “صندوق الأجيال”، وستر الله وجهك كما سترت وجوه أخوانك (السابقين) من العرب الذين يعانون من بعض ضيق ذات اليد، لا ضيق عليك الرزق ولا أحوجك إلى مد اليد، وإلا ما كانوا قصروا..
فالعراق، كما تعرف، طال عمرك، مدمر ومحاصر ومنكوب بحاكمه كما بإعصار، أميركي هو الآخر، حمل اسم “عاصفة الصحراء”، وعصف بعد أرض الرافدين بالأمة كلها، بما لا تكفي لتبريره حماقة صدام حسين،
الطريف، يا طويل العمر، إن “أصدقاءنان الأميركان” لم يتعرضوا لشخص صدام حسين، ولكنهم ركزوا على تفتيت العراق، أرضاً وشعباً، وتمزيق وحدة ترابه ووحده أهله… فشماله “كردي” بحكم ذاتي وحدود يمنع على الشرطي العراقي تجاوزها، و”برلمان” وشبه حكومة يستقبلونها في الغرب – رسمياً – ويتباحثون معها ولولا بقية من حياء لعزفوا لوفودها الموسيقى وفرشوا السجاد الأحمر، وأطلقوا الإحدى وعشرين طلقة مدفع ترحيباً،
أما الجنوب (جاركم المباشر، يا طويل العمر) فقد أعلن “منطقة أمنية” وأنكرت على أهله هويتهم الوطنية (العراقية) والقومية (العربية) وصنفوا “شيعة”، وصار الحديث عنهم وكأنهم “أمة تامة”، تحظى بحماية الأجنبي الذي ما قاتله أحد في الأراضي العربية كما قاتله أجداد هؤلاء المحاصرين بين جهنم صدام حسين وبين ذل الارتهان لإرادة مستمر فظ هو الأشرس والأغبى بين كل من عرفوا من مستعمرين، يتغطى بكوفيتكم العربية، طال عمرك، ومعك جارك العزيز ملك “الشقيقة الكبرى”.
.. ولقد كنتم أصحاب فطنة وبعد نظر، كعادتكم، فاغتنمتموها فرصة لتوسيع “حدودكم” باقتطاع بعض الرمل الذهبي، كأن الكويت ستصير أكبر أو كأن العراق سيصير أصغر، فضمنتم بهذا التصرف الحكيم استعداء آخر طفل عراقي، وساهمتم مع الأصدقاء الأميركان في اختزال العراق – بتاريخه وشعبه العظيم – في شخص صدام حسين، وتصويره وكأنه قدر العراق من الأزل وإلى الأبد.
في أي حال، فالعراق معذور إن هو قصر في مجاراتكم التبرع، خصوصاً وإن بعض هذه التبرعات قد تذهب لسداد نفقات الأساطيل التي تنتهك حرمة السماء العربية فيه على مدار الساعة للتثبت من أن “الشيعة” في أمان ينامون ملء جفونهم ثقة منهم بأن الطائرات الحربية الأميركية – البريطانية – الفرنسية، ومعها الحاملات والمدمرات (وبينها اثنتان روسيتان). تسهر على “حمايتهم من خطر.. التوحد مع الوسط والغرب والشرق والشمال، أي من عراقيتهم وعروبتهم (وأنتم بعضها)!!.
وغني عن البيان أن فقراء العرب كالأردنيين والسوريين والمصريين والسودانيين واليمنيين والتوانسة والجزائريين والمغاربة، ثم الجيبوتيين والصوماليين (أعانهم الله على محنتهم القاسية) لا يستطيعون أن يتبرعوا حتى لو أرادوا (قاتل الله الفقر… فوالله لو أنه رجل لخرجنا إلى قتاله)!!
أما الفلسطينيون، طال عمرك، فيرون إنهم قاموا بالواجب، فما تتبرعون به اليوم هو بعض رصيد عرقهم في بناء الكويت التي أحبوها إذ ألجأتهم ومنحتهم فرصة للحياة الكريمة (خارج وطنهم المغتصب) فأعطوها بغير حساب واعتبروها ملاذهم الأمين حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. ومع أن قيادتهم قد أخطأت في موقفها من مغامرة صدام حسين، فمما لا شك فيه أن غالبيتهم الساحقة قد تحملت مثل ما تحمل الكويتيون الذين كانوا بالكويت عند وقوع الغزو، ثم إنها تحملت شرور الطرد والتشريد بعد الغزو، وهكذا تم عقابهم كالعراقيين (وسائر العرب) مرتين: الأولى على يد صدام والثانية على يد خصومه الذين صاروا خصومهم هم!
يبقى لبنان، يا طويل العمر،
ولكم كان يتمنى اللبنانيون لو أن “الصندوق الدولي لإعادة الإعمار” كان قد أنشئ فعلاً، برعاية كريمة من “الشقيقة الكبرى” ومنكم، إذن لكانوا غرفوا من فائضه وتبرعوا لإعادة إعمار ولايتي فلوريدا ولويزيانا الجميلتين!
لكم كانوا يتمنون لو أنهم قد فرغوا، بفضلكم، من إعادة بنانء قلب عاصمتهم – عاصمتكم بيروت، وضواحيها، والجبل الذي تملكون الكثير من ذراه ومنائره، إذن لما قصروا…
صحيح إن جبل عامل وسائر الجنوب يخضع لعملية تدمير إسرائيلية منهجية ويومية، فتنسف قراه بأهلها وأرزاقهم وأحلامهم ويشرد شيوخه ونساؤه وأطفاله بغير مغيب أو معين،
وصحيح إن البقاع الغربي قد ذهب نصفه طعماً للنيران الإسرائيلية فصارت بعض مدنه وقراه قاعاً صفصفاً،
… ولكن أهل الجنوب والبقاع (كما أهل فلسطين وسوريا والأردن ومصر وتونس الخ) فقراء أصلاً، فلن ينزل مستواهم المعيشي، ولن ينقص عليهم ما لم يعرفوه من متع الدنيا، في حين أن الشهامة تقضي بأن نرحم عزيز قوم ذل كهذا الأميركي النبيل الذي ملأ دنيا العرب وسماءهم بأفضاله وضروب نخوته،
وقديماً قال بعض الكويتيين السذج، طال عمرك: وما فضل الأميركيين؟! لقد حررونا بلفوسنا!!
… وها أنتم الآن “تحررون” العرب جميعاً بفلوسكم الذاهبة إلى الأصدقاء الأميركان،
وآه، لو أمكننا – طال عمرك – أن نضيب إليها تلك العلب الكرتونية التي جاءت بها “قوافل الخير” إلى لبنان، ذات يوم، فتصدرت صورها – الشاحنات والبعثات والسفراء والعمال والسواقين والحمالين – صدر صحفنا لايام، بل ولأسابيع، عرفاناً وتقديراً،
لكن الجوع كافر، طال عمرك، وقد شغلنا عن عمل الخير، فعذراً إننا تصرفنا بكليلواتها القليل من العدس والسكر والفول من دون أن نحسب حساباً لغيرنا من المحتاجين، كالأصدقاء الأميركان.
وفي الختام لا نملك غير الدعاء بأن يعوضك الله خير نعويض… أما نحن فعوضنا على الله، أغنانا الله وإياكم من غيره، له الملك، يذل من يشاء ويرفع من يشاء ويعطي من يشاء بغير حساب!

Exit mobile version