يستقبل المواطن العربي السنة الميلادية الجديدة، 1992، بكثير من الهلع، تنهشه مشاعر الخوف والحيرة والإحباط والخيبة والقلق على المصير.
ولأول مرة، يكاد هذا المواطن البائس يفتقد الأمل، ولو المبهمة مصادره، في أن تكون السنة المقبلة أفضل من المنصرمة، فحيثما أدار طرفه لا يجد غير اليأس وغير انعدام الاحتمال في تغيير جدي وحاسم وفي الاتجاه المنشود.
في الماضي القريب، وعلى امتداد سنوات طوال، كانت فلسطين – بنضال شعبها العظيم، سواء اتخذ شكل الكفاح المسلح أم شكل الانتفاضة – التماعة ضوء تشق كبد الظلام العربي المجلل هذه الدنيا الفسيحة الغنية بأهلها وإمكاناتها الضائعة والمُضيّعة عن أهدافها،
أما اليوم ، وفي ظل الاحتفال البائس بالذكرى السابعة والعشرين لإطلاق الرصاصة الأولى على طريق تحرير فلسطين، بعد انخراط الانتفاضة في المفاوضة بالشروط الإسرائيلية، فإن الضوء يخبو ويكاد ينطفئ بتأثير الرياح التي أطلقتها “عاصفة الصحراء” وتورط القيادة الفلسطينية مع القيادة العراقية الجانحة في مغامرتها الحمقاء والخاطئة في المكان والزمان والهدف.
وخلافاً لأقطار عديدة في آسيا وأوروبا وافريقيا التحقت أنظمتها بما يُسمى “النظام العالمي الجديد” ففتحت الباب لنوع هجين من التعددية السياسية تغطية لإطلاقها الحرية لاقتصاد السوق، فإن الأنظمة العربية – بمعظمها – قد موهت نفسها مدعية إنها هي ذاتها قد تبدلت فبدلت بما حولها من صورة الأمس إلى صورة المستقبل!
وطريق أن يكون النظام السعودي، إياه، هو المبشر – عربياً – بالنظام العالمي الجديد!! مقدماً “مملكة الصمت” باعتبارها نموذج الغد العربي الأفضل.
الإرهاصات كثيرة لكن التخوف يظل هو الطاغي،
حتى إرهاصات التغيير تأتي منتمية إلى الماضي أكثر مما تعد بالاقتراب من المستقبل.
وبالقطع فإن العديد من القوى المسماة “إسلامية” تظهر فرحة عارمة بنتائج الانتخابات النيابية في الجزائر حيث اكتسحت “جبهة الإنقاذ الإسلامية” القوى المنافسة لها واساساً جبهة التحرير الوطني، قائدة الثورة وبانية دولة الاستقل.
لكن هذه القوى الإسلامية لم تقدم، عبر ممارساتها حتى اليوم، ما يبرر اعتبارها البديل الأفضل عن الأنظمة القائمة، والتي مكنها فسادها من تحقيق انتصاراتها الباهرة.
فلا برامجها المعلنة تعالج ما عجزت عنه “الأنظمة غير الإسلامية”، إن على صعيد الاقتصاد أو الاجتماع أو حتى الانتماء القومي.
فالدين بحد ذاته ليس هوية قومية، وليس راية سياسية، ومن الظلم تحميل العقيدة الدينية الموروثة مهمة الإجابة على مجموع الأسئلة الخطيرة التي تطرحها تحديات العصر ومدارج التقدم الإنساني.
ولم تكن مهمة الدين، في أي عصر، صياغة النظام السياسي.
ومن هنا فمن المؤذي للدين الإسلامي مثلاً أن تنسب إليه مختلف أنماط الخلافة التي سادت وحكمت “الإمبراطورية” على امتداد عصور الأمويين والعباسيين والفاطميين وصولاً إلى المماليك والأتراك.
من هنا أيضاً افتقاد النموذج الفعلي للدولة الإسلامية، التي ما تزال في ضمائر المجتهدين والمفكرين وأصحاب الأحلام السنية… وهذا أمر عانت منه تجربة الثورة الإسلامية في إيران معاناة مرة، ثم طفقت تتلمس طريقها في هذا العالم عبر التجربة والخطأ، ووفقاً لمقتضيات السياسة لا بموجب منطوق الدين الحنيف.
واليوم تشتد الحيرة بينما يتقدم “الإسلاميون” الصفوف في الوطن العربي، وفي أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي.
فمن موريتانيا إلى اليمن يُطرح “الإسلام” كبديـل، ويحتـل الإسلاميون المزيد من المقاعد – حيث هناك برلمانات -، أو يتصدرون واجهة العمل النضالي والسياسي عموماً، حيث لا مجال لانتخابات وحريات، وحيث لا بد من “الانقلاب” كطريق إلى السلطة.
لكن هؤلاء جميعأً لا يملكون – فعلياً – ما يواجهون به “النظام العالمي الجديد”، كما قدمته الولايات المتحدة الأميركية لشعوب الأرض مكرسة بذلك هيمنتها المطلقة في غياب القطب الكوني الآخر: الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي وقد باتا في ذمة التاريخ.
بل إن بعض القوى الإسلامية تبدو وكأنها مروجة لهذا النظام “الأميركي” الجديد، فهي تتحاشى التصادم معه، وتكاد تصنفه في عداد “المؤمنين” تبريراً لإنحيازها إليه أو لعد مبادرتها إلى قتاله هي التي كانت رأس حربة في “الجهاد” ضد أنظمة الالحاد الشيوعي،
وإذا ما اتخذ من تجربة “المجاهدين الأفغان” معياراً ومقياساً فإن بعض “الإسلاميين” المتصدين الآن لتولي السلطة في أكثر من قطر عربي وآسيوي يظهرون وكأنهم أكثر “غربية” – بالمعنى السياسي للكلمة – من الأنظمة التي يعملون لوراثتها باعتبارهم البديل الأفضل.
وما تزال الثورة داخل الإسلام ومن أجله مطلوبة ومنتظرة،
وما يزال مطلوباً الكثير من العمل الفكري الجاد للمواءمة بين التراث الإسلامي ومنطق العصر،
وإذا كانت مرفوضة تلك الدعوة المتشنجة الرافضة لدور الدين في السياسة، فمرفوضة أيضاً تلك الادعاءات التي تحمّل الدين فوق ما يطبق من أوزار السياسة والسياسيين، وتعرضه لامتحان لا أمل للنجاح فيه مقابل وجوه التقدم العلمي التي باتت تتحكم في صياغة أفكار الناس وأحلامهم من خلال استجابتها أو تلبيتها لاحتياجاتهم الفعلية.
وما عجزت عنه قيادة تاريخية فذة كالإمام الراحل آية الله روح الله الموسوي الخميني لن يتمكن من إنجازه متدين بالرغبة أو بالغرض كعباس مدني.
ليس التاريخ مهجع أحلام ولا ولادة آمال للقاعدين.
التاريخ نتاج إنساني أيضاً: يكون ما يريده القادرون أن يكون.
“إن لله رجالاً إذا أرادوا أراد”.
ولكن “الله لا يعير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
وبالإمكان أن تكون سنة 1992 خلاف مظهرها القاتم إذا أراد الناس ومارسوا إرادتهم بادئين بتغيير ما بأنفسهم.
وهذا يصح على لبنان كما على فلسطين كما على الجزائر كما على أي بقعة عربية.
وكل عام وأنتم بخير.
والخير، دائماً،في إرادة التغييير ، وفي العمل لتحقيق هذه الإرادة التي لا بد منتصرة طالما أخلص لها المؤمنون بها.