صناع التاريخ لا يموتون، إنهم يبقون فيه، يستوطنونه ويستمرون باستمراره، يمارسون تأثيرهم بعد الموت، وأحياناً بأخطر مما مارسوه خلال أعمارهم ونضالاتهم ونجاحاتهم في تغيير مساره ليقترب من أحلامهم وتمنياتهم ورؤاهم الخاصة للمستقبل.
تاريخ الرجال هو، وبالتحديد أولئك النفر من أصحاب الرسالات، ومن بعد هو تاريخ الشعوب، الرجال يحركون الشعوب ويصنعون منها وبها القدر الجديد. كل بلاد، أو أمة، تختصر تاريخها بمجموعة من الرجال، لكل حقبة “بطلها” تبدأ به وتمتد حتى تتلاشى ويسود الفراغ والتردي في انتظار “البطل” التالي حامل الرؤيا الجديدة ومجسدها.
وآية الله روح الله الموسوي الخميني هو آخر صناع التاريخ، آخر حملة الرسالات في هذا القرن الذي يمكن تلخيصه ببضعة رجال اصطنعوا تحولاته الخطيرة، شرقاً وغرباً، ثم رحلوا واستمر البشر يعيشون في ظل إنجازاتهم التي حكمت المسار والنتائج والتداعيات بالإيجاب أو بالسلب، لا فرق.
والثمانينات من هذا القرن هي “عصر الخميني”، وهو عصر لن ينتهي مع انتقال الخميني من دار الفناء إلى دار البقاء، بل هو سيستمر إلى ما شاء الله.
فمنذ ذلك الخريف الثلجي في الضاحية الباريسية ، نوفل له شاتو، من العام 1978، وحتى الفجر الحزين ليوم الأحد في الرابع من حزيران 1989 في طهران، اصطنع العجوز المعمم، الطريد، الشريد، تاريخاً جديداً ليس لإيران فحسب بل للعالم كله.
لقد انقسم التاريخ إلى ما قبل وما بعد، مفسحاً في الصدارة منه لرجل بسيط القيافة يقتعد الحصير ويطلق كلماته قوية فتزلزل الدنيا وتغير فيها، شرقاً وغرباً.
والعالم اليوم هو، بالتأكيد، غيره بالأمس، السبت في الثالث من حزيران 1989. لم ينقص منه شخص بوفاة القائد الفذ الذي تمنوا له الموت كثيراً وضجروا من امتداد عمره حتى التسعين، بل إن هذا العالم يفتقد الآن بعض الملامح التي ميزت حقبة الثمانينات منه، والتي سيكون لها حضورها في المقبل من لاأيام.
فليس عالم ما بعد الخميني هو نفسه عالم ما قبل الخميني، برغم كل التراجعات والانتكاسات والارتباكات التي عانت منها الثورة الإسلامية، لاسيما في سنواتها الأخيرة، والتي كادت تذهب بها قبل أن يرحل مفجرها وقائدها روح الله الموسوي المتحدر من النسب الشريف والآتي طهران من خمين عبر قم والنجف الأشرف.
العالم بلا الخميني عالم آخر، عالم مختلف، البعض سيراه عالماً أكثر انسجاماً بعد غياب الرجل الذي حلم وطمح وعمل ونجح إلى حد كبير في تغييره، وفرض منطق مختلف فيه. فلقد أنهى الخميني زمن الركود والاستسلام، وزلزل عالم الرجل الأبيض، عالم الغرب، وأعاد استحضار الشرق الأصلي، والشرق الإسلامي تحديداً، بعدما كان مجرد تابع متخلف يمزقه الاقتتال الداخلي واليأس من إمكان اللحاق بالعصر.
ولقد بادأ الخميني هذا العالم بالحرب، لأنه كان يعرف إنه سيتلاقى على قتاله، برغم اختلاف العقائد وتناقض المصالح.
أراد الخميني أن يغير الكون، أن يسقط هيمنة الرجل الغربي الأبيض. أن ينسف ركائز “المجتمع الدولي” بشرائعه وأحكامه وقوانينه الغربية التي لا تعترف بالشرق وبأهله ومعتقداته وقيمه وقوانينه المختلفة.
ولقد قاتل هذا “المجتمع الدولي” في الخميني الثائر ليصيره حاكماً، وقاتل فيه المسلم ليصيره فارسياً، وقاتل فيه الحالم بعالم جديد فصوره سفاحاً وإرهابياً معادياً للحضارة والتقدم الإنساني وحاصره ليصيره كذلك.
وبالتأكيد فإن صورة الخميني وهو يرجل عن الدنيا هي غير صورته وقد اقتحم التاريخ ليغيره… ولقد نال منه “المجتمع الدولي” فهزمه “وجرعة كأس السم”، واضطره إلى إعلان وقف الثورة الإسلامية ليستنقذ الجمهورية الإسلامية في إيران،
فالخميني الحاكم هو الذي مات اليوم، أم الخميني الثائر فقد أخلى الساحة منذ فترة، تاركاً لرجال البازار مهمة “المصالحة” مع الواقع الدولي الذي رفضه.
وهذا الخميني الآخر هو الباقي على أي حال، وهو مصدر قلق للكثيرين في الشرق والغرب، بل إن خطره سيشتد مع إعلان وفاة روح الله الموسوي الخميني، الفرد.
فالفكرة، إذا ما تحررت من أسار الشخص والدولة والمصالح، ستفعل، وربما خارج طهران، بأكثر فافعلت على حياة الخميني في إيران وجوارها.
ففكرة الثورة الإسلامية أقوى ليس فقط من الإمبراطورية الساسانية، بكل جبروتها، بل هي أقوى من الجمهورية الإسلامية ومن مرشدها آية الله العظمى. ولعل الصراع بين الفكرة وبين حملتها ودعاتها والذين حاولوا توظيفها لأغراض آنية هو بين أسباب تراجعها، والبعض يقول: وهزيمتها.
ولعل أصعب ما عانى منه الخميني في سنواته الأخيرة اضطراره لأن يقاتل ضد ذاته، ضد أفكاره ومبادئه وشعاراته، ضد الخمينية.
لقد أضاعت الثورة، في العالم المتألب ضدها، طريقها. فرضت عليها وفرضت على نفسها سلسلة متصلة من المعارك والحروب ضد الآخر وضد الذات، ضد القيادة وضد الجمهور، وباختصار ضد الكل، وعز النصير، واشتد الحصار وضاقت حلقاته وافتقد النموذج والمثل، وغلبت النزعة الانتحارية فضربت الحلم وأسقطته تاركة للواقعيين والعمليين أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه.
… وهم قد انتزعوا توقيع الخميني وموافقته على كل التراجعات، سلفاً، بحيث يبدو وكأن إعلان وفاة الخميني – الميت منذ حين – قد تأخر في انتظار استكمال الإجراءات لمباشرة عصر ما بعد الخميني، وهو عصر لن يكون حضور الثائر والثورة فيه إلا رمزياً وبكائياً وبالتالي شديد الانسجام مع الطقوس الإيرانية التي غلفت التراث الشيعي ودمغته بطابعها “اللطمي” المفجع.
وإذا كان من المبكر تقييم تجربة الخميني وتحديد موقف من عصره، فما يمكن قوله في هذه العجالة إن العرب كانوا أعظم الخاسرين في حياة الخميني وإنهم سيكونون أعظم الخاسرين بعد وفاته.
فلا هم استطاعوا أن يربحوا إسلامه، ولا هم استطاعوا أن يوفروا له النموذج، أو أن يطوروا تجربته الفذة بحيث تغنيهم وتنفعهم في نضالهم لاحتلال مكانة تليق بكرامة أمتهم أو حتى بحجم الثروة في أرضهم… المقدسة.
ومن دون العرب يظل إسلام “المسلم الآخر”، أي غير العربي، ناقصاً وغير سوي، ولذا بقيت الجمهورية الإسلامية في إيران متهمة بالفارسية أو بالشيعية، وكلا الأمرين يحسم من الثورة ويضعفها.
بل إن العرب المذعورين من ثورة الخميني اندفعوا في عدائهم حتى كادوا يخرجون من الإسلام وعليه… وليست مصادفة إن واحدة من أخطر التهم في دنيا العرب اليوم أن يكون المرء “إسلامياً” أو “أصولياً”.
ومعلوم إنه كلما نقص إسلام العرب نقصت عروبتهم… وهكذا انتهى بهم الأمر، في مواجهة ثورة تقول بالإسلام، إلى الاحتماء بالعلم الأميركي، وهو ليس علماً من أعلام الدين الحنيف أو من المؤمنين به طريقاً إلى الغد الأفضل.
رحل آخر العظماء، إذن،
رحل المجاهد الذي قاتل بإيمان الأنبياء تجبر الطواغيت، واستخدم مبتكرات العصر ليصطنع عصره الخاص، لكن عصره الخاص ظل أعجز من أن يغير الدنيا، خصوصاً وإن القائم بالتغيير رجل يقول في كل لحظة إنه يفضل عليها الآخرة.
انتهى الخميني، وربما تكون قد انتهت ثورته،
لكن فكرة الثورة الإسلامية باقية في انتظار أن يأتي فيحملها القادرون على المزاوجة والمواءمة بينها وبين العصر، بحيث لا تظل – بمبدئيتها وعقائديتها – خارجه، ولا تبقيه بتعصبها أو انغلاق أفق رجالها، خارج.
… وستظل الثورة الإسلامية تنتظر العرب الذين ينتظرون كل شيء الاها، بينما قد لا تكون لقضاياهم حلول خارجها، أي خارج ثورة إسلامية من دون… الخميني!