“أحلف بالله العظيم إني احترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأحفط استقلال الوطن وسلامة أراضيه”…
هكذا أقسم أمين الجميل واقفاً وقد رفع يده اليمنى، في تلك القاعة بثكنة الجيش في الفياضية التي وصل إليها عبر طوابير الدبابات والسيارات العسكرية الإسرائيلية المشاركة في غزو لبنان ومحاصرة الإرادة الوطنية والقومية في بيروت، يوم 23 أيلول 1982.
ولعل “الأمين” يتنهد اليوم بارتياح لأن “الرئيس” فوق الشبهات، وبالتالي فلا أحد يسأله أو يسائله عن مدى التزامه بالقسم الدستوري الذي بدأ به ولايته التي ستنتهي، أخيراً، بعد ليل وفجرين.
لقد وفى “الأمين” بالعهد وبر بقسمه، ولم يحدث أن غادر القصر الجمهوري رئيس ممتلئ بنعمة إنه أدى الأمانة كما هي الحال مع أمين الجميل، بشهادة واقع الحال،
ولنبدأ من الآخر، فذلك أسهل:
هل ثمة شك في أن أمين الجميل حفظ سلامة أراضي الوطن؟
إن الأراضي موجودة بمساحتها الكلية، “صاغ سليم”، بل هو قد حاول أن يضيف إليها بردم البحر في بعض ضواحي بيروت… وإذا كان “البشير” قد تحدث كثيراً عن الـ 10452 كلم مربعاً، فإن “الأمين” يمكنه أن يتحدث عن 10461 كلم، مع الفوائد وهي جمة وأنواعها شتى وأسعارها عال العال وبالدولار.
صحيح إن الأراضي “مرتهنة” أو “مرهونة” أو “محجوزة” أو عليها “إشارة” أو هي “شريك وخليط” في بعض المواقع، ولكنها جميعها مسجلة وحسب الأصول… فـ “الشريط الحدودي” مقتطع بوضع اليد، لكن “الجنرال لحد صاحبنا، وهو ضابط جيد وادمي، ولا يخون وطنه، وإذا كان الآن يماشي الإسرائيلي فلكي يمنعه من ابتلاع هذا الجزء العزيز والغالي من أرض لبنان. يا سيدي، يأكلها السبع ولا يأكلها الضبع”!
أما “المناطق المحررة” الممتدة بين كفرشيما والمدفون فهي في الحفظ والصون، وهي كأرض الوقف لا يقع عليها بيع أو شراء. صحيح إنها بتصرف “القوات اللبنانية”، ولكن أترانا نسينا إن من في “القوات” هم أولادنا؟! ثم، إلى أين سأتخذها “القوات” التي هي بنت الكتائب التي هي بنت أبينا الشيخ بيار، أي بنت أبي الرئيسين؟! وطالما إن الكتائب في خدمة لبنان، فماذا يمنع أن تكون أرض لبنان كله تحت يد الكتائب وبمسؤوليتها، اطمئنوا، الأرض موجودة والكتائب موجودة ولا خطر، وأنا الضامن والضمانة.
تبقى المناطق الأخرى، مناطق الاحتلال، عفواً قصدت الوجود، هل قلت الوجود؟ إنما أقصد التواجد السوري. هذه مشكلة سابقة على رئاستي. إنني الآن أسلمها كما استلمتها لم ينقص منها شبر. لقد قاتلت حتى لا تمتد إليها يد بالقطع أو بالضم، ونجحت، أما ما يكون بعدي، فمن شأن غيري!
نجيء إلى استقلال الوطن. إن لبنان وطن أبدي سرمدي أزلي، ومثله استقلاله، هذه صخور نهر الكلب شاهدة. لا يهم من جاء ومن ذهب. لقد جاء الكثيرون، لكنهم ذهبوا جميعاً وبقي لبنان. والاستقلال ، في أي حال، نسبي، وهو شعور نفسي أولاً وأخيراً. وأصحاب النفوس الكبيرة، مثلنا، مستقلون، حتى لو كانت الجيوش الأجنبية تملأ عليهم مدى الرؤية والهواء الذي يتنشقونه.
أما أنا، أمين الجميل، فقد حفظت استقلال الوطن لأنني ظللت أشعر بالاستقلال حتى آخر لحظة.
القوانين؟ هه! القوانين ناسخ ومنسوخ، من يحاسب من على القوانين؟ لقد غيرت في عهدي القوانين أكثر من مرة، فعن أي قانون تسألون؟! ثم إنني أنا، الرئيس، رمز الوطن وحامي حمى الكيان، مجسد الإجماع الوطني، أنا بذاتي الدستور، وأنا واضع القوانين ومصدرها، وليست لدى مشكلة في احترام القانون، فطالما أنا قادر على تغيير القوانين إذن فما لا يعجبني منها أغيره لكي احترمه.
فأما الدستور فإني أحفظه عن ظهر قلب، ثم إني أحفظه في مكان قريب إلى قلبي ويدي، وكلما خفت من الزلل فتحته لكي أتأكد إنني ضمنه… وأبرز دليل إنه في أحسن حال إنني أعددته لأسلمه مع “العهدة الأميرية” لخلفي الصالح، إذا ما كان لي خلف، فإذا لم ينتخب غيري فلسوف آخذ الدستور معي أنى ذهبت فكيف أتركه وحيداً في قصر بلا أبواب، يلفحه حر الصيف ويبلله مطر الشتاء فتذوب سطوره وتمحي كلماته ويتهمني التاريخ بأني أهملت الدستور فتاة أو تاه اللبنانيون عنه فهلكوا، إذ كيف تكون حياة بلا دساتير؟!
إن الراحل غداً مرتاح البال إلى أنه لا يرحل وحيداً،
لقد “رحل” كل الناس، كل المؤسسات، كل شيء قبله،
“رحّل” الارض، جعلها برزخاً، مجموعات من الجزر الصغيرة المتناحرة المقتتلة، تتناثر في محيط من الكراهية والأحقاد الطائفية والمذهبية والعشائرية الخ.
و”رحّل” فكرة الوطن ومشروعه، فصار هم اللبناني أن يحصل على جواز سفر من أي دولة أو دويلة في أطراف الدنيا، فإذا تعذر الجواز فلا أقل من تاشيرة إلى “أي مكان، صحراً إن كان”، أو “إلى جهنم أحمر”، كما كان يقول صديقنا الأرمني كاربيس،
لقد ترك اللبنانيون له “دولته” ونجوا بأنفسهم إلى أرض الله الواسعة، لكي يحموا حياتهم ومستقبل أبنائهم والرزق على الله…
وهو، على أي حال، قد “رحّل” اللبنانيين جميعاً، وإن كان رحيلهم اتخذ شكلين: بعضهم هجرته حروب العهد الميمون من أرضه وبيته وجيرته وملاعب الصبا إلى “الكانتون” المغلق خلف “المعابر” التي صارت “حدوداً”، والبعض الآخر رحلته نجاحات سياسة العهد إلى أقصى الأرض، وهو لن يعود لأنه يدرك إن البلد يحتاج إلى جيلين أو ثلاثة لكي ينهض من تحت الأنقاض ويستعيد بعض العافية وبعض القدرة على الحياة.
لقد “رحّل” الدولة التي هو رئيسها،
“رحّل” مؤسساتها جميعاً إلى “حيث ألقت رحلها أم قشعم”!
“رحّل” الرئاسة، “رحّل” الحكم، “رحّل” الحكومة، “رحّل” الجيش وسائر الأجهزة العسكرية، “رحّل” القضاء والإدارة بمختلف أجهزتها المدنية، “رحّل” حتى عمال التنظيمات، ناهيك بالكهرباء والماء، ولو استطاع لهجر الهواء إلى فضاء آخر مكتفياً بأنه “أعطانا” بيتاً للمستقبل، فماذا نريد من الماضي والحاضر؟!
إنه آخر الراحلين،
وهو لن يجد في وداعه أحداً لأنه لم يبق ولم يستبق أحداً ولا شيئاً!
وهكذا يخرج مطمئن البال، مرتاح الضمير، إلى أنه أدى الأمانة والتزم بحرفية القسم إضافة إلى مضمونه!
لعل خروجه يكون المدخل إلى إعادة بناء لبنان، وضمان سيادته وسلامته، ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته!
لعل وعسى،
تفاءلوا بالخير تجدوه.
إنه آخر الراحلين،
فهو قد “رحّل” خارج الدولة “ائفته” بكل رموزها القيادية والميدانية،
لقد “رحّل” على الأرجح رئاسة الجمهورية، وليس أكيداً أن تعود إلى الطائفة أو تعود الطائفة إليها،
و”رحّل” قيادة الجيش التي كان من نصبه فيها خير “عون” له في تنفيذ هذه المهمة المقدسة،
فلقد كان هم “الجنرال” أن يثبت وكل يوم إنه هو وحده، ولا أحد غيره، وبالتحديد لا “الأمين” ولا “الحكيم”، قائد جيش الطائفة وحامي حماها،
وفي حين انصرف الثلاثة يتنافسون على هذا اللقب الفخم فقد افتقد الوطن جيشه فلم يجده في الجنوب مدافعاً عن السيادة وسلامة الأرض، ولا هو وجده، في الجبل حامياً وضامناً لوحدة الشعب، ولا هو وجده في بيروت أو في الضاحية مدافعاً عن “الدولة” و”الشرعية” وحق المواطن في الحياة وفي الكرامة،
ثم إنه “رحّل” حزب الكتائب ومشتقاته، فساعد على تحويله إلى عصابات لا تتورع حتى عن بيع سلامة الأجيال الآتية فتستقدم النفايات السامة وتزلارعها في أرض الكانتون “المحرر” مقابل ثلاثين من الفضة.
أما الأجيال الحالية فعوضنا الله عن سلامتها في سلامتك،
وها هو الآن يحاول أن “يرحّل” بكركي بدورها التوفيقي التاريخي المفترضن فيكاد يحول البطريرك صفير إلى متطرف بين المتطرفين بدل أن يكون مرجعاً للمعتدلين بوصفه يتحمل مسؤولية تاريخية عن سلامة المسيحيين عموماً في لبنان وسائر الارض العريبة.
إنه آخر الراحلين،
لكن البلاد باقية، فلا هو كان البداية ولن يكون النهاية.
والشعب باق، فهو من قبله كان أقوى، ومن بعده سيكون أقوى.
لقد اقتحم السلطة فأحدث فيها انقلاباً أخرجها من موقعها الطبيعي كنقطة توازن دقيق في المعادلة اللبنانية الهشة.
وهو حتى اليوم، أي حتى اللحظة الأخيرة من ولايته ما زال يتصرف بالعقلية الانقلابية – الانتحارية إياها، فيحاول أن يمنع اللبنانيين من الاتفاق على من وما بعده، بعدما منعهم من الاتفاق خلال حكمه الذي “رحّل” من اللبنانيين ثلثهم أو يزيد، و”ذهب” بمعظم أرزاق اللبنانيين وبكل معنوياتهم.
فهل بعد هذا احترام لدستور الأمة اللبنانية وقوانينها؟!
وهل ألا هكذا يكون حفظ استقلال الوطن وسلامة أراضيه؟!
وكيف تكون “الأمانة” إن لم تكن هذه التي عرفناها من “الأمين”؟!
عشتم، وعاش لبنان.