طلال سلمان

على الطريق آخر المخطوفين… آخر الحروب الخطأ

لن تنتهي “حروب الآخرين على أرضنا” بالمطلق، كما لن ينتهي تناقض المصالح وصراع مواقع النفوذ بين الدول عموماً على كل أرض، لكن فجر الأحد في 11 آب 1991 يشكل نقطة نهاية لمرحلة امتدت طويلاً في لبنان ودمغت الثمانينات بطابع استثنائي في فرادته.
لقد انتهت مرحلة “لبنان – الساحة”، بمقدار ما انتهى العنف المطلق والموجه ضد العالم بأسره تعبيراً عن “حالة” كانت مرشحة لأن تكون بداية تاريخ جديد للإنسانية وبالتحديد للمستضعفين في الأرض.
والمرجح أن يكون الطبيب الفرنسي جيروم ليرو آخر المخطوفين ومن ثم الرهائن الغربيين في لبنان والمنطقة عموماً،
فبقدر ما كانت عملية الخطف “خطأ مطلقاً” كان النجاح في تحرير المخطوف وفي وقت قياسي تعبيراً عن حجم التحولات الهائلة التي تمت، وعن التبدل الخطير في المواقع وفي موازين القوى وبالتالي في أدوار الأطراف المعنية.
صحيح إن صرخات الاستنكار والشجب والتنديد كانت ترافق وتعقب كل عملية خطف وكل احتجاز لحرية أي إنسان، سواء أكان أجنبياً أم مواطناً، لكن “الخاطفين” كانوا يستشعرون من القوة ومن “الحصانة” المستمدة من هيبة الشعار ما يجعلهم لا يهتمون كثيراً بالضجة التي تثيرها عملياتهم… بل لعلهم كانوا يستشعرون مزيداً من الرضا عن النفس كلما اتسع نطاق الضجة وطغت أصداؤها على الأحداث جميعاً فغطت عليها.
لعلهم أصلاً كانوا يطلبون الضجة كتعبير عن نجاحهم في لفت الانتباه إلى قضيتهم وأهدافهمن التي يرونها عادلة ومطموسة وعرضة للإهمال،
ولعلهم كانوا يحسون إنهم هم “محتجزون” و”رهائن” فاختاروا أسلوباً نافراً وفظاً لفرض الاهتمام بوضعهم على العالم الذي لا يعترف بالضعفاء ولا يسمع إلا منطق الأقوياء الذين يقهرون الشعوب ويحتجزون حرياتها وإراداتها ومصالحها ويتحكمون بمصائرها.
ذلك كان في البداية، وللبداية دائماً وهج الموقف المبدئي أو العقائدي المتطهر، ثم تدخل السياسة الحلبة، ومع السياسة التناقضات التي تستولد الصراع وتستدعي الانقسامات واقتتال الأخوة، ويرتطم الواقع بالطموح والحلم بالإمكانات فينتهي الأمر بانفصام مريع بين الشعار والوسيلة والمبدأ وأداة تحقيقه وتبرز الحاجة إلى مراجعة التجربة وإلى نقدها وإلى تصحيح المسار منعاً للانتحار.
البداية… إنها تبدو سحيقة في بعدها عن اليوم، وتفتقد المنطلقات الرابط مع النهايات التي خضعت – بالنتيجة – لمنطق الواقع البارد والقاسي والصعب قبوله على أصحاب نظرية الثورة الدائمة.
ما علينا، ولماذا التنظير في أمر بهذا الوضوح والجلاء.
لقد اختلف الزمان، ودار الفلك دورة كاملة، فلم يعد ثمة مجال للتوهم أو للالتباسز
من هنا التقدير إن جيروم ليرو آخر المخطوفين،
وحمداً لله إن “الخاطفين” استوعبوا الدرس ولو متأخرين فجنبوا بيروت وبعض ضواحيها، وجنبوا أنفسهم مذبحة تفتح جرحاً جديداً في الجسد الممتلء جراحاً وندوباً لن تزول آثارها بسهولة.
وما أشبه وضع “الخاطفين” بوضع “المخطوفين” أو الرهائن كما عبر عنه المحتجز الآخر الذي تم “تحريره” في دمشق، يوم أمس، الأميركي ادوار نريسي حين قال: لقد فوجئنا بالعالم حين استعدنا الوعي به، وسمعنا ضجيج الطائرات والسيارات وأصوات الباعة في الشوارع.
ربما يكون “الخاطفون” قد فوجئوا، ولعلهم قد صدموا، بالصورة الجديدة للعالم من حولهم، وبمدى التبدل الذي طرأ على أحجام القوى وهيبة شعاراتها والحصانات التي كانت تعطى لها ذات يوم.
لقد تبرأ منهم بعض من كان يتبناهم ويرعاهم ويمنحهم الدعم والحصانة.
فالأسلوب الذي كان دائماً غير مقبول صار اليوم بمثابة إعلان حرب على الأصدقاء قبل الأعداء، وتحول إلى “تورط” مباشر في حين كان استدراجاً وتوريطاً للآخرين، وانقلب بأذاه على أبطاله بدل أن يكون مصدر أذى لقوى مخاصمة في “الداخل” و”الخارج”: لقد صار حرباً ضد الذات.
الأخطر أنهم بدوا فجأة “عراة” ومكشوفين بلا غطاء من “الجمهور” أو من النفوذ.
ومع التقدير لكفاءة الأجهزة الأمنية التي تابعت الموضوع من اللحظة الأولى بالاهتمام الكافي، فإن “المنفذين” كانوا معروفين تماماً بالأسماء، وكذلك التفاصيل من الأمكنة إلى الطرق وخط السير، ولذا لم يستطع “القياديون” التملص أو نفي العلاقة.
وإذا كان “الحكم ملح الأرض”، كما تقول العامة في أمثالها، فإن من لا يعي تبدل الظروف والتحولات السياسية الخطيرة، يدفع الثمن غالياً… وقد يصل الثمن إلى إلغاء وجود الطرف الغافل أو المقصر في فهم الوقائع الجديدة.
وليس من باب المصادفة، مثلاً، أن ترتد عملية احتجاز هذا الطبيب الفرنسي على منفذيها، وأن تفشلش في منع إطلاق باقي الرهائن ، وأن يضطر هؤلاء إلى الإفراج عن محتجزهم في وقت واحد تقريباً مع اضطرار “زملاء” لهم – وإن كانوا منافسين – إلى إطلاق الأميركي تريسي المحتجز منذ ست سنوات.
لم يعد أحد كما كان، ولم يعد شيء كما كان،
فبيروت اليوم هي غير بيروت الأمس، وكذلك واشنطن، وموسكو، وطهران، وبغداد، والجزائر الخ.
لقد تبدل الكون، وهو في طريقه إلى مزيد من التبدل قبل الاستقرار على صيغة نهائية جديدة ونظام عالمي جديد، قد يكون مرفوضاً لكن قوة رفضه أضعف من أن توقف الاندفاعة نحوه.
لقد سقطت رايات وشعارات ومناهج وأساليب عمل هي وليدة مرحلة أخرى، مختلفة جذرياً، فمنطق الثورة في تراجع مستمر، ومنطق الأمر الواقع يسود أكثر فأكثر، ولم يعد مقبولاً العنف كأسلوب عمل (خصوصاً إذا ما استهدف الأشخاص).
ولقد تحول “الرهائن” إلى سلاح ضد الخاطفين بدل أن يكون وسيلة ضغط على دولهم لإجبارها على تغيير سياساتها.
وليس المطلوب التخلي عن الأفكار الثورية وعن حماية المستضعفين، ولكن المطلوب اختيار أسلوب جديد يأخذ التحولات في الاعتبار، ويكون أكثر تناسباً مع طبيعة المرحلة.
والمهم: التخفيف عن “الجمهور” بدل إرهاقه عبثاً، وجره إلى معارك خاسرة سلفاً، وإدخار الجهد ورصيد القوة للمهام الجديدة، خصوصاً وإنها أكثر خطورة مما سبقها.
والمهم أن يستوعب الجميع الدرس فلا تظل بعض الأطراف تخوض حروباً خاطئة في مكانها وزمانها وشعاراتها واستهدافاتها، على حساب المشاركة الفاعلة في الحروب الأقسى التي تنتظر من يخوضها – وإن بأساليب مختلفة – حتى لا تكون الهزيمة شاملة وساحقة وأبدية النتائج!

Exit mobile version