من الصعب – عربياً – تحديد أي السنوات من ربع القرن الأخير هي الأسوأ،
إنه زمن الشقاء والبؤس والتوغل نحو قاع التردي والضياع وافتقاد الدور والهوية.
إنه زمن الهزيمة الشاملة: على المستوى الفردي كما على المستوى الوطني أو القومي، وعلى مستوى السياسة والحكم كما على مستوى الثقافة والإبداع الفني، على المستوى الاقتصادي كما على مستوى القيم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية.
لم يهزم الشعار، بل هزم صاحب الشعار. لم تسقط الراية وحدها، بل سقطت القضية. كانت التراجعات تنهش من لحمنا وأفكارنا وإرادتنا، وفي لحظة واحدة انتبه الإنسان العربي إلى أنه “لطيم” بالمطلق، لا أب ولا أم ولا أهل، لا قائد ولا قيادة، لا راية ولا قضية، لا دور ولا موقع في هذا الكون المتحول. انتبه إلى أن مستقبله خلفه، وإن أحلامه وتطلعاته غدت ذكريات من قبل أن تمتحن قدرته على تحقيقها. المضيء والمبهج في الخلف، وليس أمامه غير الضباب والكوابيس والمهالك.
إلى أين من هنا؟! لا أحد يعرف، خصوصاً وإن “هنا” مبهمة وغير محددة، وليست نقطة ثابتة أو بعض معالم الطريق.
لقد جاء زمن الحصاد. الآن نجني ما زرعته القيادات والمؤسسات السياسية وأنظمة الحكم على امتداد نصف قرن من الصراع الذي بدأ ضد الآخر وانتهى ضد الذات. من القتال ضد المحتل الأجنبي، في المشرق والمغرب، إلى اقتتال الأخوة في القطرين الشقيقين، إلى الحرب الأهلية المعلنة أو المضمرة داخل كل قطر من أقطار الوطن الكبير بين موريتانيا واليمن السعيد.
النتائج قاسية جداً، وأقسى ما فيها أنه لا يمكن عزلها عن المقدمات والأسباب.
ولنحاول معاً أن نستعرض، وبسرعة، بعض المحطات، ليس بقصد المراجعة النقدية إنما من باب توصيف الواقع، وسنكتفي بنموذجين ليس إلا:
** محلياً
في منتصف الستينيات، هاجر فتى لبناني هرباً من الفقر والاضطهاد السياسي إلى السعودية سعياً وراء لقمة العيش.
كان اسمه رفيق الحريري، وكان منتمياً كالكثيرين من أبناء جيله إلى حركة القوميين العرب التي كانت تحمل – مثل حزب البعث العربي الاشتراكي – مشروعاً سياسياً عظيماً لتوحيد الأمة كلها، وتحرير المحتل من أرضها، وبناء الغد الأفضل لإنسانها.
كان مستحيلاً على “قومي عربي” أن يدخل الإدارة، في لبنان، ناهيك بالجيش أو الأجهزة الأمنية. كما كان شبه مستحيل أن يكمل الفقير تحصيله العلمي، فالعلم بالثمن، ولا يملك الثمن إلا مستغل السلطة أو محتكر الخبز والدواء أو المسخر نفوذه “الرسمي” لأغراضه الشخصية.
اليوم يتربع رفيق الحريري على قمة السلطة في لبنان – لكن القومية العربية، الحركة والتنظيم، هاجرت إلى حيث لا يعرف أحد لها عنواناً. بل هي صارت تهمة أشنع وأبأس منها في ستينيات انتعاش “الانعزالية الجديدة” في لبنان. وهكذا لم يجد مناصرو رفيق الحريري وقادة “جماهيره العريضة” ما يأخذونه على نجاح واكيم (المعارض العنيد والمخاصم الصنديد) إلا أن “سيفه بطول القومية العربية التي نادى وينادي بها، ورمحه بعرض المحيط الهادر الذي يريد أن يرفع راية الشعارات الرنانة على شواطئه”…
وصحيح أن “زعامة” رفيق الحريري المعلقة بخيط لم تعمّر إلا يوماً واحداً، قبل أن ينتبه إلى أن الزعامات لا تبنيها اللافتات التي يرفعها مرتزقة في ليل، ويتندر الناس بزعامة الخام والكتان والعبارات الصفراء الركيكة كناظمينها والتافهة كالذين علقوها بالثمن.
… لكن مجرد الطموح إلى زعامة بيروت المقاتلة، المناضلة، حاملة راية الجهاد القومي، نوارة العرب ومنتداهم الفكري، قيثارتهم ومطبعتهم وجريدة الصباح، شارعهم الوطني ورئة الديموقراطية، هو اعتداء فظ على تاريخ هذه المدينة التي فيها وقعت هزيمة “جيش الدفاع الإسرائيلي”، وفيها تهاوت القوات الأطلسية ومعها مدافع نيوجرسي الشهيرة، وهي هي المدينة التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء.
إن المسافة بين رفيق الحريري الأول ورفيق الحريري الثاني هي بالضبط المسافة بين الحلم والكابوس، بين الأمل بنصر والتردي في قاع الهزيمة.
كانت ميزة لبنان أنه دائماً أكبر من حاكمه أو حاكميه، اليوم يتباهى رجل فرد بأنه أكبر من لبنان وليس فقط أغنى. وأنه يحكم بقوة ماله وليس بوهج فكره أو بمشروعه السياسي الواعد بمستقبل أفضل. إنه يلغي الديموقراطية، أو ما تبقى منها، برفض مبدأ المعارضة أو المحاسبة. فإا كابر بعض أصحاب الرأي والاجتهاد حاربهم في رزقهم، وشهر بهم، وتصاغر إلى احتراف الوشاية والنميمة.
واضح أنه لم يضيع وقته هباء في السعودية، وإنه لم يجن فيها المال فقط، بل هو اكتسب الخبرات في أقصر الطرق لبناء الدولة: اشتر الأرض والسكان، ثم ابن وفق مزاجك مدينة عريقة للمستقبل!
وميشال عون كان يريد هدم بيروت لإعادة بنائها للمرة الثامنة أو التاسعة.
وها هو “المقاول” قد جاء، وها هو يحاول أ×ذها بمناقصة مقفلة عليه وحده.
إنه يتصرف بها تصرف المالك بملكه. لقد ملك العقار، وأحيي رميم عظام الجمعيات والروابط والهيئات والأندية والأحزاب المنسية. بل هو جعل الجمعية اثنتين والرابطة أربعا والهيئة خمسا والنادي عشرة، ثم أطلق “الزلم” يكتبون – وسط الظلام – على الجدران المنخورة بالرصاص: “يا حريري لا تهتم، عندك زلم بتشرب دم”.
مجرد قطعة خام معلقة بخيطين بين جدارين يحفظان تاريخ حقبة كاملة.
هل أبأس من مثل هذه النهاية للسياسة في بيروت، المشطرة بعد، المعطلة القلب بعد، المهدمة الجنبات، والمسبية، يتحكم فيها “المطاوعة” و”الخويان” باسم النهوض الاقتصادي وإعادة البناء والاستعداد للسلام الإسرائيلي؟!
** عربياً…
إنها سنة الاضمحلال العربي. واتفاق غزة – أريحا هو العنوان فحسب. أما النص فلا يقل قسوة وإظلاماً.
الكيانية تبرر الكيانية وتحميها، فإذا الكيانيات تشهد بعضها بعضاً كالبنيان المرصوص.
وعندما سلمت الكيانات العربية بالكيانية الفلسطينية كانت كأنما تحصن نفسها مستفيدة من وهج الثورة (وقد باتت فلسطينية لا عربية) لتمويه الخطأ وتث3بيته نهجاً رسمياً.
كانت كأنما تعلن الخروج من فلسطين، فاتحة الباب لأن تدخل إسرائيل في وقت لاحق إلى قلب الكيانية الفلسطينية، أو تدخل هذه الكيانية إسرائيل متخذة موقع الحليف.
كانت إسرائيل هي “الكيان الوحيد فوق الأرض العربية، خصوصاً وإن الدعوات السياسية المشبوهة لتزوير هوية لبنان وجعله “كياناً” بذريعة تنوعه الطائفي وحماية حقوق الأقليات (من الأكثرية لا في وجه الأجنبي) كانت قد تراجعت تحت ضغط الحركة القومية حتى كادت تتلاشى.
من هنا كان الحديث عن “الكيان” حديثاً عن الصهيونية التي ابتدعت حقاً لإتباع دين معين في أراضي الآخرين، وجهدت لإقامة كيان سياسي على قاعدة دينية. وبهذا كانت الصهيونية دعوة علنية لتجاوز كل ما وهو وطني وقومي وطبقي طلباً لكيان يستند إلى الخرافة الدينية.
فالصهيونية تربط الأرض بالأسطورة الدينية وتفصلها عن البشر، بشرها. الأساس هو التوراة لا الإنسان، التلموذ لا المزارع ولا الصانع ولا التاجر ولا بناة البيوت وأطفال المدارس والشعراء والمبدعون الذين يغنون الأرض ويحولون التراب إلى أغنيات ومواويل.
الصهيونية ليست مجرد قرار بإقامة كيان سياسي على أرض الآخرين، (وبالمصادفة فهم العرب!!)، وإنما هي محاولة لإلغاء الأوطان، إلغاء الهوية، هوية الأرض وبالتالي هوية إنسانها.
ففي “الشرق الأوسط” يتجاوز “الغرباء”، ولا فضل لعربي على روسي أو بولوني أو حبشي بأسبقية الوصول والاستيطان والامتزاج بتراب هذه الأرض واصطناع تاريخها بدمه وعرقه. الغرباء آحاد وتجمعات بشرية لا شعوب بصفات محددة. والأخطر: لا رابطة بين تجمع وآخر، حتى ولو بركاكة جامعة الدول العربية. فالنظام إقليمي، والإقليم هو الشرق الأوسط، وللتركي مثل ما للإسرائيلي وللإسرائيلي مثل ما لشعب عربي كامل، باللغة البائدة.
لا يستقيم الأمر للصهيونية إلا بعزل الجغرافيا عن التاريخ، وعزل البشر عن الجغرافيا بالفصل القاطع بينهما. ويحل المال كرابطة وحيدة محل الروابط القديمة جميعاً، الشعار ديني، لكن المال هو السيف وهو الهدف. ومن معه يملك الأرض ومن وما عليها. كل شيء للبيع، ومن لا يبيع بالرضا يطرد من الجنة وتصادر أرضه لأسباب أمنية! والمال مال… لا رائحة له ولا هوية، لا وطنية ولا قومية. وعلى قاعدته وبوهجه يتم انتظام العلاقات والقيم الجديدة.
ومن يرفض هذا الواقع يصنف إرهابياً ويطلب للعدالة في أربع رياح الأرض.
و”الشركات العقارية” تعفى من الحرج. فلا ضرورة لذكر الأسماء. كذلك فهي تعفى من الضرائب لمدة عشر سنوات… وفيها يتساوى الفلسطيني بالتركي والإسرائيلي بالمغربي، والخليجي بالأميركي الخ.
والمال هو المال، سواء أجاء من أميركا أم من السعودية أم من اليابان. من معه يأخذ، ومن ليس معه يؤخذ منه ما كان له.
المسافة، إذاً، هي بين الطموح إلى دولة واحدة فوق الأرض العربية جميعاً، وبين المشروع الصهيوني في ظل النظام العالمي الجديد الذي ينزع عن هذه الأرض هويتها العربية، ويلغي إنسانها بالذات، ثم يعلنها أرض فضاء ومشاعاً للقادر على الشراء.
والأمثلة لا تقع تحت حصر، فإلى حديث آخر.