حيثما التفتّ في أنحاء الخليج تلمح »شبح« العراق..
هو عذر لطالب الحماية الأجنبية خوفاً، وهو ذريعة للمتنصل من »القومية« التي لا تجد هناك تجسيداً لها إلا في صدام حسين وغزوة الكويت.
غيابه سبب لاختلال الأوزان، بما يحقق توازناً جديداً مبتدعاً وغير مسبوق: فإذا ما حضر العراق تصاغرت كل هذه الكيانات في الجزيرة والخليج عائدة إلى أحجامها الطبيعية، وهي أحجام لا تتناسب مع طموحات حكّامها.
أما إذا »تأكد« غياب العراق، فإن التوازن يختل مرة أخرى، ليس فقط في ما يتصل بإيران وما تبقّى من وهج للثورة الإسلامية فيها، بل أيضاً في ما يخص العلاقة مع الحليف الغربي الذي تحوّل إلى قوة حماية، أي إلى قوة احتلال، مهما اجتهد المجتهدون في تمويه صورة الوجود العسكري الغربي، الأميركي أساساً، في مياه الخليج وفوق أرض الممالك والسلطنات والمشيخات جميعاً، وإن تفاوتت النسب بين خائف وآخر.
ثم ان ثمة حسبة ضمنية من طبيعة مذهبية تطل برأسها بين الفينة والأخرى، إذ إن سقوط هذا النظام القائم في العراق قد يفتح الباب لاحتمالات خطرة تكسِّر ركائز التوازنات السائدة والتي تجعل من بغداد »السنِّية« سداً منيعاً أمام خطر الاجتياح الشيعي للعراق بداية ثم لما جاوره من كيانات صغيرة تحكم أنظمتها باسم أكثرية محدودة هي في واقع الأمر أكبر الأقليات التي يتكوّن منها سكانها المتعددو الأصول.
إلى ما قبل غزو الكويت كانت إمارات الخليج قد أتقنت اللعبة: تغازل بغداد وتزيد حجم تجارتها مع طهران، أو تقصد طهران بينما موفدوها يشرحون لبغداد أن ذلك من باب التكتيك أو التقية لا أكثر.
أما بعد الغزو فقد وجد الجميع أنفسهم أمام الجدار الأميركي وأمام قرار يلزمهم بإعلان الحرب على القطبين الأعظمين في منطقة الخليج: إيران والعراق معاً، وهو القرار الذي عبّر عن نفسه بسياسة »الاحتواء المزدوج«..
في هذا الوقت كانت أقطار الجزيرة والخليج برمتها تخضع »للاحتواء المنفرد« وتدفع كلفة باهظة من مدخراتها ومن احتياطيات آبارها النفطية ثمناً لصفقات سلاح متطور تعرف أنها لن تحتاجه، وأنها إذا ما احتاجت إليه لن تجد بين أبنائها من تلقى التدريب الكافي على استخدامه، هذا إذا ما توفر أصلاً العدد الكافي من أبنائها لقيادة الطائرات الشديدة التعقيد والدبابات التي تتحرك مدافعها باللايزر، والرادارات الموجهة للصواريخ.
بالمقابل، وفي ما عدا الكويت، كانت تتصاعد الأصوات بالاعتراض على عودة القواعد الأجنبية، أي الاحتلال الغربي، إلى المنطقة واسترهانها سواء بذريعة تضخيم مخاطر الاجتياح الايراني، خصوصاً وقد سقطت قوة المواجهة العربية الأصلية (العراق)، أو بذريعة أن استمرار صدام حسين على رأس السلطة في العراق يعني بقاء الاحتمال باجتياح جديد لا يتوقف عند حدود الكويت بل يواصل زحفه حتى آخر بئر نفط على امتداد الجزيرة والخليج.
وكان لافتاً أن تتزعم بعض تيارات السلفية »السنية« الاعتراض على القواعد الأجنبية، وأن تتحرك لضربها حيثما استطاعت الحركة، ولا سيما في السعودية (تفجير الرياض، ثم تفجير الخُبر، وتروى حكايات كثيرة عن تفجيرات انكشف أمرها فأحبطت في اللحظات الأخيرة..).
ومع أن احتمال التلاقي بين السلفية السنية العربية وبين دعاوى التثوير الشيعية التي تهب من إيران ليس وارداً، أقله في المدى المنظور، فإن منطق »العداء الشعبي«، إذا صح مثل هذا التعبير، للوجود العسكري الأميركي بات مسموعاً ومقبولاً حتى مع العجز عن نقله إلى حيز الحركة.
وتدريجياً يتزايد التماهي بين الوجود الأميركي في المنطقة وبين مخاطر الاجتياح الاسرائيلي لها والتي يرى الناس في خطوات التطبيع (افتتاح مكاتب الاتصال) مقدمات تمهد له، وهذا مما يزيد حدة العداء، ولو مضمراً، للوجود العسكري الأجنبي، بقدر ما يراكم أثقال اليأس والإحساس بالضياع في نفوس الخليجيين.
ومع أن الأنظمة الخليجية تلقّت ضمانات أميركية مؤكدة أن إعادة ضخ النفط لا تعني بأي حال عودة العراق إلى دائرة الفعل والحركة، إلا أن مجرد الاحتمال أثار المواجع وحرّك خلافات نائمة وهدّد بانشقاقات أو تشققات داخل الأسرة الواحدة.
ولقد قدمت المناقشات التي شهدها الاجتماع الوزاري لمجلس التعاون الخليجي أدلة حسية على ازدهار تجارة التخويف بالعراق مقابل الاستقواء بالعراق العائد الآن إلى الساحة بإذن أميركي.
وقيل على سبيل المثال إن وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات راشد العبد الله اتخذ موقفاً متشدداً من »تطبيع« العلاقات مع بغداد، فلما ذكّره البعض بكلام نقل عن رئيس دولة الامارات الشيخ زايد بن سلطان، وعن نجله الشيخ حمدان رد قائلاً: »للشيخ زايد وأنجاله أن يقولوا ما يشاؤون، لكنني هنا لأعبّر عن سياسة الدولة المعتمدة رسمياً«..
ولم يكن ذلك هو الشاهد الوحيد على تناقض حاد بين المعلن والمضمر من السياسات الخليجية تجاه العراق،
والأيام كفيلة بإظهار المزيد من التناقضات داخل مجلس التعاون كما داخل كل دولة من دوله بالذات..
هذا برغم أن العراق سيستمر غائباً ومغيَّباً ولن يحضر منه إلا نفطه، ومن أجل مزيد من الإخضاع للخاضعين أصلاً على امتداد الجزيرة والخليج.
ولعل في الاستقبال الاستثنائي الذي خص به الشيخ زايد الملك حسين في زيارته الأولى إلى الإمارات بعد ست سنوات من القطيعة وارتداده عن العراق مؤشراً على »الاحتواء المزدوج« العربي هذه المرة للنفط العائد من دون عراقه.