طلال سلمان

موت السلاطين واحزان الرعايا!

يتقدم القلق على الحزن، ويتملّك الناس الإحساس بالخوف على المستقبل ومنه وهم يتابعون أخبار مرض الملك حسين الذي يبدو أنه قد عاد ليموت في بيته وبين أهله بدل الموت الموحش في الغربة.
ليست المشكلة في الموت، فهو قضاء الله ولا اعتراض، لكن المشكلة في أن الأوضاع السائدة في الوطن العربي بمجمله ترتبط بأشخاص حكامه، ومعظمهم قد حاصر الناس بين أمرين أحلاهما مرّ: استمراره وحده، وعلى حساب الدولة ومؤسساتها والشعب وحقوقه البديهية في التعبير عن إرادته واختيار نظامه ومَن يمثلونه فيه، أو.. الحرب الأهلية!
فانتقال السلطة في الوطن العربي مصدر للمواجع والخوف على »الكيان«، بينما هو في بلاد العالم قاطبة من مظاهر الصحة والعافية والرقي الاجتماعي والتمدن والقدرة على التجدد في ظل نعمة الديموقراطية، وكل تلك هي ضمانات »الكيان« والعاصم من الانقسام أو التقسيم أو التشطر والتشظي بعد زوال »الجامع« أو »الرابط« بالقهر الداخلي أو بالإرادة الأجنبية أو بهما معاً.
ولعل العراقيين يغبطون الأردنيين الآن على أن المرحلة الأولى من مراحل انتقال السلطة قد تمت سلمياً، وفي ظل الملك الذي منع مشروع انقلاب قيل إن أخاه الحسن كان قد قطع في إحداثه شوطا بعيدا لكي يكون له العرش ولذريته من بعده وليس لذرية أخيه المريض.. وبالاتكاء، هو الآخر، على الأميركيين والإسرائيليين وبالتحديد »المتطرفين« منهم.
ذلك أن العراقيين يموتون يومياً ألف مرة، وهم محاصرون بين ضربين من الجنون: جنون حاكمهم الذي بلغ ذروته في اجتماع اللقاء التشاوري لوزراء الخارجية العرب قبل أيام في القاهرة، حين »هجم« على العرب هجوما شرسا وغير مبرر أعفاهم من مسؤولياتهم وأعطى »المتواطئين« على العراق العذر لتحويل اللقاء الى فرصة إضافية للتملص من أعباء الالتزام بسلامة شعب العراق وأرضه، ثم هناك الجنون الأميركي المطلق الذي وجد في جنون »الشريك« صدام حسين فرصة لا تعوّض لابتزاز العرب حاضراً ومستقبلاً، ثروة وإرادة، وللتحكّم بمستقبل سلاطينهم الخائفين من الالتزام القومي ولو بحدّه الأدنى أكثر من خوفهم من شبح صدام حسين.
السلاطين خائفون، أما الشعوب فخوفها مضاعف: تخاف من سلطانها في حضوره، وتخاف من غيابه أكثر، لأن »زواله« قد يكون مجلبة لمصائب لا حصر لها… ذلك أن أياً من السلاطين لم يعمل للموت حساباً، عدا عن أن أياً منهم لا يعترف للشعب بحقه في الوجود إلا كرعية صالحة تؤمَر فتطيع، ومن باب أولى ألا يعترف لهذا القطيع بحق الرأي في السلطة ومَن يتولاها وكيف ولو بعد عمر طويل!
ومن المؤكد أن الفلسطينيين، بدورهم، يغبطون الأردنيين، فهم لا يعرفون ولا يستطيع أحدهم التكهن أو التخمين بما ستكون عليه حالهم إذا ما اختطف الموت رئيس كل »مؤسساتهم« القديمة والجديدة والمستحدثة ياسر عرفات.
لقد حصر الملك حسين إرثه في ولي عهده، مسلِّماً بأن ساعته قد اقتربت.
لكن الحكّام الآخرين يرفضون الاعتراف بالموت، وبأنهم سيغيبون ذات يوم، وبالتالي فهم لا يفكرون لحظة ولا يسمحون لغيرهم بأن يفكر بمن سيكون الخليفة أو الوريث.
وشبح الموت يحوم فوق المنطقة مضيفاً الى المخاطر الجدية القائمة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، خطر الانقسام الداخلي أو الاقتتال الأهلي، سواء بين أركان السلطان الذي قد يختاره ملاك الموت، أو بين »عناصر« الشعب وفئاته المختلفة التي لجمها القمع فمنع حسم إشكالاتها وخلافاتها ديموقراطياً وسلمياً.
وفي ما عدا أقطار عربية محددة ومحدودة، فإن رحيل السلطان قد يعني سقوط »الدولة« و»كيانها«، وقد يعني انفجار خلافات حدودية أو قبلية أو عشائرية أو اثنية أو طائفية أو مذهبية، مما قد يؤدي إلى حمامات دم والعياذ بالله، وإلى انهيار ما تبقى من الأحلام العربية في التقدم والانتساب الى العصر، بل لعله سيطرح وجود بعض دولهم، ككيانات سياسية منفصلة ومحتربة على بساط البحث بينما الأمم الكبرى تتكتل في اتحادات قارية لمواجهة العولمة التي هي الستار أو الاسم الحركي لأمركة العالم، أي لفرض الهيمنة الأميركية على الكون.
وليست دولةً، بأي عرف وبأي تصنيف، تلك التي تسقط برحيل سلطانها.
وليس شعباً ذلك الذي يتربط مصيره، وجودا أو عدما، بحياة سلطانه الذي غالبا ما فرضته عليه الإرادات أو المصالح الأجنبية (والآن يمكن المخاطرة بالقول: مشاريع التوسع والهيمنة الإسرائيلية).
والحزن كثيف حتى ليحجب الشمس في سماء هذا الوطن الكبير.
لكنه حزن على الشعوب التي اختزلها حكامها في أشخاصهم الفانية.
والطريف الى حد الوجع أنه سيقال غداً إن هذا الشعب أو ذاك لم يكن جديراً بالحياة، أو أنه كان »صنيعة« حاكمه، فلولاه لما كان، وهو مَن أوجده وبغيابه غاب.
أي أن السلاطين يغيِّبون شعوبهم مرتين: مرة بحضورهم، ومرة بغيابهم..
وإنا لله وإنا إليه راجعون!

Exit mobile version