»إقرأ« أرنون. و»الذي علّم بالقلم« في أرنون. نون وما يسطرون في أرنون. المجد لله، وأرنون في العلى، وعلى الأرض يصنع الناس السلام. لا يهبط السلام بمظلة الشفاعة الدولية، ولا بطاقة للسلام في طائرة ساترفيلد.
لا يعطي المحتل غير الموت، إلا ذل الخوف من الموت.
وأرنون خلف الخوف، على حافة الموتين: المدفع الإسرائيلي و.. النسيان!
ظلت الصورة ناقصة ومهزوزة حتى ما قبيل ارتفاع الأذان لصلاة الجمعة الأرنونية، أمس: يقصد الناس أرنون، وأمام الإنذار بالموت يتجمّدون، ينادون فيرد الأسرى النداء، ويتجمّعون فيتشاكون، وقد يبكون، ويتعاهدون ثم يتفرقون، وتتدثر أرنون مجدداً برداء صمودها. الله الصمد. إن الله مع الصامدين.
يجمع جنود الاحتلال صدى النداءات والشكوى والنشيج. يجعلونها حكايات للتندّر في ليل ذعرهم الطويل، داخل أسوار القلعة المسيَّجة بالدبابات والمدافع تحت خيمة الطائرات والحوامات بصواريخها المضادة للإنسان.
وتشرق الشمس مجدداً ولجنة »تفاهم نيسان« لا تعرف كيف تجتمع، فإذا ما اجتمعت لم تعرف ماذا تقرّر، ودافيد ساترفيلد يدور على القصور محذراً من الذهاب إلى مجلس الأمن؛ ذلك سيكون تحدياً للدور الأميركي أو استغناءً عنه، وقد أُعذر مَن أنذر!
ببساطة، مثل كل ما هو طبيعي حتى ليتجاوز حدود المدبَّر والمخطَّط له، قرّر شباب لبنان كسر الأسوار جميعاً في بيروت ومن حولها أولاً، وصولاً إلى أرنون.
ببساطة، مثل كل ما هو أصيل، انتبه شباب لبنان إلى أنهم يجب أن يبدأوا بأنفسهم: تهاوت الطائفيات والمذهبيات، وانطفأت المخاوف والهواجس الجارحة بأكثر من الأسلاك الشائكة، وقرروا، ومع الصباح انطلقوا!
»رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد ثاني«.
اقتحمت الطليعة الطالبية لشباب لبنان، المتحدرة من جامعات عدة، ومن انتماءات سياسية متباينة، حواجز العبثية و»الزهق« وعدم الاهتمام، وذهبوا »للعمادة« في أرنون..
أسلاك شائكة، ولافتات صفراء تنبّه إلى أنك بلغت »الحدود« بين الحياة والموت، فإن أنت تقدمت هلكت، أما إن التزمت بالأمر الصارم القاضي باحترام خط الحدود الجديد، فلك أن تصرخ أو تبكي أو تخطب أو تصلي صامتا، بغير أن يعترضك جندي »أصلي« أو مرتزق عميل.
مدَّ الأول يده إلى الأسلاك، هزها، فاستشعر أنه قادر على خلعها، فباشر بخلعها. فتح لنفسه ثغرة في قلب الخطر. دخل فلم تنفجر به الأرض. الأرض تعرف أهلها. اندفع إلى الأمام، انعطف إلى اليمين، وكرّ راجعاً إلى اليسار، وأصوات نساء أرنون تكاد تتحوّل عويلاً: انتبه! احترس من الألغام! إرجع! لا تتقدم، بحق الله توقف. ارحم شبابك وارحمنا! يكفينا ما نحن فيه!
لا تعرف الطليعة الطالبية من شباب لبنان الأرض في أرنون. لكنهم أبناؤها. هي تعرفهم واحدا واحدا، وتعرف أهلهم عائلة عائلة، وشهيدا شهيدا.
أسقطت الإرادة حاجز الخوف. قطعت أوصاله أسلاكه إرباً، وعاد الشباب بنتفه إلى بيوتهم لتكون لهم تذكاراً، وعليهم شاهداً.
ببساطة، مثل كل ما هو عفوي وبديهي، كما الصلاة، أثبت شباب لبنان أنهم بإرادتهم أقوى من الاحتلال.
هي الانتفاضة. هي روح المقاومة. هو مجد الصمود.
لقد تلاقوا فقرّروا أن الدروس الحقيقية تؤخذ عن أرنون، وأن »الواجب« الفعلي، يقضي بأن تذهب الجامعة إلى أرنون، وأن الامتحان الحقيقي في أرنون.
حيّ على المقاومة، فروحها التي تعمر صدور الشباب فتحت الطريق إلى أرنون.
والمسيرة التي بدأت أمس، لن تنتهي إلا متى جمع الاحتلال أسلاكه وألغامه ودباباته وجثث مظلييه، ورجع من حيث جاء.
أرنون، حيّ على مَن يقرّرون.
أرنون، حيّ على مَن يحرِّرون.
ولسوف يسطِّرون غداً، بداية جديدة لتاريخ جديد: أرنون.
طلال سلمان