طلال سلمان

اجتماع قاهرة وراحة ما بين عهدين

قبل اجتماع القاهرة وبعده تظل المعادلة هي هي: باراك يريد وقف الانتفاضة فورا ليستثمر هذا الإنجاز الخطير في الانتخابات التي فرضها بعد شهر لعله يتجاوز بها مأزقه السياسي، وكلينتون يريد تحقيق هذا المطلب الاسرائيلي ولو بصيغة ملتبسة كإنجاز تاريخي لرئاسته المنتهية، بعد أيام، وياسر عرفات يريد ان يبيع من كلينتون مبدأ العودة الى المفاوضات ويطلب الثمن من العرب نقدا وقبل الموقف السياسي، لمرحلة من الصعوبة يعرف انها ستطول فتتجاوز القائمين بالأمر في كل من واشنطن وتل أبيب.
وقبل اجتماع القاهرة وبعده تظل المعادلة هي هي: العرب لا يريدون تحمل مسؤولية الرفض أميركيا وإسرائيليا، ولا هم يستطيعون تحمل وزر القبول، لذلك احتموا وراء تحفظات عرفات التي يمكن اعتبارها »قبولا مشروطا« كما يمكن تسويقها جماهيريا بأنها »مطالبة مهذبة لمن لا يصح إغضابه« بتعديلات تنسف المقترحات بغير أن تغلق باب التفاوض… ودائما بأمل كسب الوقت تطبيقا للمثل القائل: »عند تبديل الدول احفظ رأسك«.
ويعرف عرفات ان لجنة المتابعة المنبثقة عن قمة الانتفاضة ليست هي المرجع الصالح للنظر في المقترحات الاميركية رفضا او قبولا، ولو أنه دعاها لكي تجيز له ما كان قرر فيه فعلا وأبلغ رده مباشرة الى صاحب المقترحات.
لقد جاء إليها ليطلب الصورة التي تفيد بأن العرب معه بالإجمال وليحرج من قد يلومه او يخطئه او يحاول مساءلته غدا، بالإلحاح على إظهار التقصير العربي في الالتزام بما تقرر من دعم (مالي) للانتفاضة، فمن لا يدفع لا يحق له طلب كشف حساب سياسي.
بالمقابل فقد باع من كلينتون موافقته على اللقاء الامني، وعلى اعلى مستوى مع الاسرائيليين وبحضور قيادة المخابرات المركزية الاميركية، وهو لقاء موضوعه العملي الوحيد: وقف الانتفاضة.. واختيار القاهرة بالذات مكانا للقاء يتضمن الإيحاء بأن المسؤولية عن مثل هذا القرار الدراماتيكي أو الفشل فيه هي »مسؤولية عربية«.
في أي حال فقد اخذ العرب علما، عبر اجتماع لجنة المتابعة، بآخر المقترحات الأميركية للحل النهائي لأوضاع »فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة«، حاضرا ومستقبلا، ودائما كمشكلة امنية اسرائيلية اولها في تل أبيب وآخرها في واشنطن، بغير ان يكون لأي »طرف ثالث« حق الرأي فيها فكيف بحق النقض؟؟
والحقيقة ان معظم العرب قد سلّموا، قبل اتفاق اوسلو ثم بعده بشكل كثيف، بأن »التفاصيل« الفلسطينية مسؤولية بحت اسرائيلية، تصطرع عليها ومن حولها القوى السياسية الاسرائيلية ويتقرر عبر »التساهل« او »التشدد« في شأنها مستقبل الحكم، بالكنيست والحكومة والعسكر، ويتم توظيفها واستغلالها في المناكفات الحزبية، فإن علا صوت الاعتراض الفلسطيني لعلع دوي المدافع الاسرائيلية.
ولقد ضاقت مساحة »التفاصيل الفلسطينية« حتى لم يعد للعرب فوقها مكان.
اختفت كلمة »فلسطين« نهائيا، وإن استمرت نسبة السلطة والقيادات والاحزاب والمنظمات إليها.
بل لقد تم تمزيق المساحات المتروكة للفلسطينيين بحيث لا تعود تصلح أرضا لدولة او لكيان ناهيك بأن تكون »وطنا لشعب«.
وفصل المسجد الأقصى عن الحرم القدسي، والحرم عن القدس، والأحياء عن المدينة، والمدينة عن اهلها، والارض عن شعبها، فثمة فلسطينيون الآن ولا فلسطين، لا كدولة ولا كأرض موحدة ولا كهوية رسمية يعترف بها العالم، ويعترف بالتالي لشعبها المشردة اكثريته كلاجئين في الأقطار العربية المجاورة او في ديار الشتات، حتى جاءت الانتفاضة، فاختلف الكلام وتبدل المضمون، ولو بصورة مبدئية.
كان ممنوعا إعادة تجميع فلسطين. إن هي أعيد تجميعها استعادت صورتها الاصلية كقضية تتسع لكل العرب بل وتستدعيهم إليها، فإن لم يأتوا اقتحمتهم في بيوتهم واستقدمتهم إليها كما حدث بالانتفاضة، فكانت »القمة الطارئة« خطوة استباقية لما قد يكون مما لا تحمد عقباه!
لذلك اجتمعوا فاستمعوا ثم افرنقعوا من دون ان يقول احدهم »نعم« صريحة ومن دون أن يجهر أحدهم بكلمة »لا« قاطعة، خصوصا من استُدعي في اللحظة الاخيرة ليبدي رأياً بما لم يكن في صورة مجرياته، ومن اجل تحميله مسؤولية سياسة لم يُستشر فيها أبدا.
أين الانتفاضة من كل هذا؟!
وهل كان تغييب الشعار السياسي عن التضحيات الجسيمة لهذا الشعب الفلسطيني العظيم مقصودا حتى لا تؤاخذ به »السلطة« اسرائيليا وأميركيا وبالتالي عربيا؟!
وهل الوجه الآخر لقبول المقترحات الاميركية والعودة الى التفاوض على ما يفترض ان الانتفاضة قد جعلته خارج التفاوض، هو إعلان بانتهاء زمن الانتفاضة، بذريعة أنها حققت أهدافها، وطيّ أعلامها وقرع جرس الانصراف للمناضلين الذين قدموا لها الروح وما ملكت أيمانهم، باعتبارها الاسم الحركي لفلسطين القضية؟!
إن لعبة الزمن محكومة بقانون توازن القوى نفسه، لا سيما في المدى القصير..
فهل ارتاح العرب الى تكتيك عرفات بأن يلعب لعبة الوقت حتى تنقضي مدة كلينتون بغير صدام، ولا يتهم بأنه قد استخدم »صوته المرجح« في الانتخابات الاسرائيلية لإسقاط باراك وما هو أسوأ، أي إنجاح ارييل شارون الذي أعلن سلفا انه لن ينفذ أي اتفاق يتناول مستقبل القدس واللاجئين، على فرض ان غيره قد قبله؟!
الانتفاضة أم المفاوضات برصيد الانتفاضة ومن أجل العودة بالوضع الى ما قبلها؟!
لقد رفض كلينتون ان »يشتري« الانتفاضة لحساب باراك، بأكثر مما كان دفعه في »كامب ديفيد 2«، أي قبل اندلاعها.
ويمكن لعرفات ان يقول غدا: إن العرب قد رفضوا إدامتها بامتناعهم عن دفع ما التزموا به في ظل خوفهم من اتساع رقعة النار التي أشعلها فتية فلسطين بدمائهم الزكية، في آخر أيلول الماضي.
وبالطبع يمكن للعرب أن يقولوا غداً: إن عرفات قد تفرد مرة أخرى، وإنه أبقى القاهرة على صلة، لأن دورها كحاضنة مطلوب لنفي التفرد عن المتفرد.
الكل أحال الأمر على الزمن، وفي انتظار ان يخلو المسرح من »البطلين« المخيفين: كلينتون وباراك..
أما ما بعد ذلك فأمر آخر… فدع الوقت يحل العقدة، مع »العهدين الجديدين« في واشنطن كما في تل أبيب.
ولتكن راحة ما بين العهدين!

Exit mobile version