درءا للظنون وتشجيعا للحوار ابدأ بإعلان أن هذا المقال يهتم غالبا بالسياسة الخارجية ولن يتعرض للسياسة الداخلية إلا حين تفرض نفسها على منطق المقال أو تخترق سياقه. أبدأ أيضا بالاعتراف بأنني أجد صعوبة في صياغة الأسئلة الضرورية وراء النية في كتابة هذا المقال أو أي مقال يتوجه نحو عرض وتحليل جانب أو آخر من حال العالم الآن. أسمع أن الإعلان عن تفادي الشأن الداخلي لا يحتاج لتقديم أو تبرير بعد أن صار قاعدة في عالم يزداد بعدا عن الديموقراطية. أما الاعتراف بصعوبة صياغة الأسئلة الضرورية لمناقشة أحواله، وأقصد هذا العالم، فالكاتب أو الصحفي في أي دولة ما يزال في عرفي حرا في اتخاذ قرار بشأن هذا الاعتراف وهو أيضا حر في استدعاء تعاطف القارئ أو طلب مشاركته في الاجتهاد لصياغة الأسئلة الضرورية.
تجمع تقارير المعلومات المتدفقة من أهم عواصم العالم وأقلها أهمية على حد سواء على أن صانعي السياسات في مختلف الدول يواجهون صعوبات، أو بدقة أشد، صاروا يواجهون تعقيدات غير مألوفة عند صنع أو تعديل قرارات في الشؤون الخارجية. أصدق بالحس والمراقبة الدقيقة والسؤال المستمر بصدق هذه المعلومة. هنا لا ألاحظ اختلافا جوهريا بين تعقيدات يواجهها الرئيس فلاديمير بوتين خلال يوم عمل في الكرملين بموسكو وتعقيدات يواجهها الرئيس دونالد ترامب خلال اليوم نفسه في البيت الأبيض بواشنطن. أضرب مثلا. كانوا، وأقصد هؤلاء المخضرمون في المناصب أو الجدد من صانعي السياسة والقرار في الدول الكبرى، وحتى الصغرى، يعرفون بالوضوح اللازم من هم الأعداء ومن هم الحلفاء والأصدقاء. كنا نعرفهم ولا نخلط بينهم ولا نغير مواقفنا منهم بتغير الأمزجة أو بوعود وضغوط. أعرف الآن، وعن ثقة نسبيا عالية، أن أمر الأعداء والحلفاء والأصدقاء وآماد ثباتهم وقياس ولاءاتهم وتغييرهم لم يعد من القضايا الثابتة أو على الأقل بطيئة التغيير. أعرف ويعرف المطلعون عن قرب أن كثيرين من المحيطين بالمكتب البيضاوي في البيت الأبيض وبالمترددين على الخارجية الأمريكية في الـ “فوجي بوتوم” وكلهم مسؤولون بشكل أو بآخر وفي لحظة أو أخرى عن اتخاذ قرار في شأن خارجي لن يجتمعوا على رأي واحد عند استجابتهم لطلب ترتيب الأعداء والأصدقاء لهذه الدولة الأعظم. لن نجد هؤلاء مجمعين على هوية العدو الأول لأمريكا، بل ولن نجد غالبيتهم في صف هوية دون أخرى.
العدو الأول هو روسيا أم الصين أم الإرهاب أم مهربو المخدرات من وراء الحدود مع المكسيك..؟ تعالوا نسأل أنفسنا، وكلنا على ما يبدو صرنا خبراء في الشؤون الدولية، نسأل من هو العدو الأول لمصر..؟ ونسأل، ولعله أسهل، ما اسم وعنوان الدولة التي تقف في صدارة قائمة الدول الصديقة، هل هناك حلف يضمنا ونحتمي بمظلته..؟
كانت السياسة الخارجية في زمن انقضى من المهام السياسية بسيطة التركيب. كان يمكن لرئيس دولة نامية أو حديثة الاستقلال أن يكتفي لإدارة سياسة بلاده الخارجية بالسير بخطى ثابته وراء دولة عظمى بعينها. البعض اختار الانضمام لحلف لينعم بالراحة والاطمئنان تحت مظلته الآمنة. بعض مغامر اختار مسايرة أكثر من دولة عظمى. كان ثمن المغامرة معروفا سلفا والعائد أيضا معروفا أو مقدرا سلفا. كان الثمن باهظا. تغيرت الأوضاع. القاعدة الجديدة تشجع الدول الأقل شأنا على السير في ركاب أكثر من دولة عظمى في آن واحد. للمقارنة بين عصر الولاءات الثابتة وعصرنا، عصر تعددية الولاء، لدينا المثال التركي الراهن حيث يقود السيد الطيب اردوغان سياسة خارجية مظهرها بالغ التعقيد ومحتواها أيضا. في واقع الأمر يكشف لنا يوميا الرئيس التركي عن وضع دولي مرتبك عرف كيف يستثمره لصياغة نموذج صالح للاستخدام في هذا الوقت تحديدا وليس في أي وقت. استفاد من وجود رئيس في أمريكا عاشق لهواية هدم مؤسسات وأفكار لصالح اختلافات غير مؤكدة أو حتى معروفة. استفاد من نية مبيتة في البيت الأبيض وأخرى مبيتة في الكرملين، نيتان تشتركان في هدف تفكيك لحمة البيت الأوروبي. استفاد السيد اردوغان من عجز مفاجئ أصاب مفهوم الحليف في العلاقات الدولية فراح يمارس بحرية وربما باستهتار أيضا سياسات وأعمال خرق لشروط عضويته في حلف الأطلسي. تأكدت بنفسي عندما كنت استمع إلى تصريح للأمين العام لحلف الأطلسي متحدثا إلى السيدة كريستيان امانبور في فقرة من برنامجها التلفيزيوني. كان الأمين العام للحلف ضعيفا أيما ضعف في رده على سياسات الرئيس اردوغان المعادية لعقيدة وميثاق حلف تنتمي إليه تركيا وكانت تعتمد عليه في تحقيق أمنها في مواجهة روسيا السوفيتية التوسعية. تقديري أن تركيا لم تغير انتمائها للناتو، الناتو هو الذي تغير. في تقديري أيضا أن تركيا واثقة كل الثقة من أن روسيا التوسعية عادت، بينما حلف الأطلسي يتفكك.
كذلك استفاد اردوغان من تغيرات في العلاقات والتوازنات داخل منظومة الاتحاد الأوروبي. أزمة البريكسيت كانت بمثابة جرعة تنشيط للسياسة التركية تجاه أوروبا بعد مرحلة ابعاد وابتعاد متعمدين من الطرفين، المفوضية من ناحية وأنقرة من ناحية أخرى. لم تكن البريكسيت المنشط الوحيد للرئيس اردوغان في علاقته بأوروبا. إذ حدثت خلال الأعوام القليلة الماضية جملة تطورات غيرت من طبيعة وشكل نظام توازن القوة داخل أوروبا. مثلا تأثرت سلبيا مكانة السيدة آنجيلا ميركل، وبالتالي مكانة ألمانيا، في أوروبا نتيجة تدهور علاقاتهما المتوترة أصلا مع الرئيس ترامب وإدارته. من جهة أخرى تأثرت سلبيا أيضا مكانة المستشارة ميركيل، وبالتالي مكانة ألمانيا، في أوروبا نتيجة الهزيمة النسبية التي لحقت بالديموقراطية المسيحية فى الانتخابات الألمانية. من جهة ثالثة، تأثرت سلبيا مكانة السيدة ميركيل، وبالتالي مكانة ألمانيا، نتيجة العجز الفاضح لنفوذ أوروبا، وألمانيا بخاصة، في التعامل مع روسيا حول الأزمة في اوكرانيا وسياسات التدخل الروسي في الشؤون الداخلية لدول أوروبا ومنها ألمانيا وفرنسا. من جهة رابعة، تأثرت سلبيا مكانة ألمانيا وفرنسا معا، في أوروبا كما في خارجها نتيجة للخلاف المعلن بين الدولتين حول أدوار لأوروبا في الأزمة الليبية وقضايا الدفاع الإقليمي وبخاصة أزمة الناتو والتصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي لمجلة الايكونوميست واصفا حال الحلف بحال إنسان بمخ تالف.
استفادت تركيا من أوضاع جديدة في النظام الدولي. اخترتها نموذجا للمقارنة بين نمطي تعامل في السياسة الخارجية في عصرين مختلفين. ينقص في العرض الإشارة إلى فوائد أخرى عادت للرئيس اردوغان وتركيا من خلال تعاملها مع النظام الإقليمي الأقرب لها وهو النظام العربي. كان لا بد أن نسأل إن كانت تركيا استفادت بنفس القدر لو لم توجد روسيا أم أن التوسعية الروسية تقف حائلا ضد التوسعية التركية. إسرائيل استفادت من الوجود الروسي وتوسعت وإيران استفادت وتوسعت. هكذا ننتقل من نظام إقليمي عربي بدا في نظر اردوغان هامدا إلى نظام إقليمي شرق أوسطي يبدو على البعد صاخبا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق