عادت السياسة إلى اللغة العربية، وها هم العرب يعودون تدريجيا وبكثير من الحذر إلى المسرح السياسي الذي خلا منهم لسنوات.
فعلى امتداد الفترة بين الحربين الأميركيتين في الخليج العربي، تلك التي وقعت فعلاً قبل سبع سنوات، وتلك التي لما تقع برغم أن شبحها قد لفّ وما زال المنطقة العربية جميعا، اختفت السياسة بمعنى القدرة على التفكير وعلى اتخاذ القرار، من الحديث الرسمي العربي.
أما على المستوى الشعبي، فلم يكن ثمة ما يقوله عربي لآخر إذا ما التقاه: كان الجميع »يرتاحون« في قاع اليأس، مسلِّمين بأنه لا مجال لأي تغيير في الداخل، ولا نفع من أي اعتراض على القدر الأميركي، ومعه القدر الإسرائيلي، وهما يتحكّمان مجتمعين ومنفردين بالداخل العربي وبالخارج معا.
اليوم، يبدو وكأن العرب قد استعادوا، نسبيا، علاقتهم بالسياسة، فعادوا يناقشون ويحللون ويتوقعون ويهمون بأن يقرروا، ولو بقدر من التردد، تعبيرا عن عودة أقطارهم أو أنظمتهم أو »جماهيرهم« الى دائرة الفعل.
في مهرجان الجنادرية الذي تحتضنه الرياض، كل سنة، ويرعاه ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، توفرت الفرصة لأن يلتقي العرب بعضهم بعضا فيقول كل ما يختلج في ضميره، ويسمع من الآخر، ولأن يفكر الكل معا.
ولم يكن صعبا تمييز »الجديد« في لغة هذه الكوكبة من المثقفين والفنانين والإعلاميين العرب، المتحدرين من تيارات واتجاهات متباينة، والآتين من مختلف أنحاء المشرق والمغرب.
كانت الجمل الأولى في أي حوار بين هؤلاء الآتين من خارج الاتفاق المسبق تكشف ملامح العودة الى الوعي بالذات، وبعضا من عودة الروح الى ما يمكن اعتباره »مشروع موقف عربي«، بديلا من حال اليأس والقرف والعدمية والاستسلام لما لا يمكن رده…
وفي الصحف السعودية خاصة، والخليجية عموما، بما فيها الكويتية، كما على شاشات الفضائيات العربية، مناقشات مفتوحة حول الذي كان والذي لم يكن، والأخطر: حول ما يجب أن يكون عربيا، بعد دهر الشلل، حتى لا تتكرر الأخطار والمآسي وحتى لا تستمر بالتالي الهيمنة الأجنبية والتسليم بها قدراً.
لقد افتضحت فسقطت أسطورة الاستعانة بالذئاب المتوحشة لحماية القطيع الذي يهدّده كلب كَلِب..
أكلت الذئاب من القطيع وأهله ما لم يكن ممكناً للكلب أن يلتهمه، ثم ان الذئاب مقيمة لا تريد الرحيل ولا هي »تطرد« الكلب، فلا بد من استمرار التهديد لكي تستمر الحماية بأكلافها الباهظة.
مع افتضاح هذه الأسطورة التي يقال إن مسؤولاً عربياً كبيراً قد استشهد بها في بعض أحاديثه مع وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، سقطت الهيبة الأميركية التي كانت تفرد ظلالها من موقع الحامي والضامن للوجود على الأرض كما على النفوس والألسنة، والأرصدة والإرادات والإيرادات والقرارات، بما فيها تلك التي تتصل بصميم داخل الداخل.
ومع سقوط الهيبة الأميركية أخذت تتصدع أيضاً الهيبة العسكرية الإسرائيلية: إذن فالكون ليس رهينة، والعرب يستطيعون لو أرادوا!
في البدء كانت غضبة الشارع العربي،
لقد عاد الشارع إلى السياسة. نزل الناس إليه فانتبه الحكّام الى ان الأمر يتجاوز رغباتهم ومصالحهم ولا بد من سماع صوت الناس.
قال كل العرب، في مختلف عواصمهم، انهم ضد الضربة الأميركية الجديدة للعراق، وانه قد آن الأوان لوقف هذا العقاب الجماعي، وإنه لا بد من التصدي للكيل بمكيالين، خصوصا وقد تبدى واضحاً أن إسرائيل تضع الكمامات لاستكمال الظهور بمظهر الضحية تمهيداً لكي تنال بعض جوائز الغزو الجديد.
والتفت العرب إلى نموذج مختلف: الى المقاومة الوطنية الإسلامية وهي تواصل توجيه ضربات متميزة بالشجاعة الخارقة وبالكفاءة القتالية الاستثنائية، لقوات الاحتلال الإسرائيلي في لبنان.
كان النموذج يشع مستقطباً أفئدة الشبان العرب المقهورين والمضيّعين في حاضرهم والمجهول مستقبلهم،
وبالتأكيد فإن هذا كله، إضافة الى الصلف الأميركي وسياسة الفرض، قد لعب دوراً في تصليب موقف الأنظمة العربية وفي دفعها إلى المجاهرة برفض الضربة العسكرية الأميركية، بالمطلق، وليس فقط برفضه المشاركة فيها وتحمّل مسؤولية تمويلها (ناهيك بالمسؤولية التاريخية عنها)…
ولقد ساعدت مواقف العديد من الدول الكبرى، وفي طليعتها روسيا وفرنسا والصين، في لجم الاندفاعة الأميركية، كما كان لمجاهرة الرأي العام الأميركي برفضه للحرب دورها، على أن الغضبة الشعبية العربية التي عبّرت عن نفسها علناً، ولأول مرة منذ دهور، متجاوزة حساسياتها واعتراضاتها على النظام العراقي، هي التي حسمت أمر عودة »العرب« إلى المسرح السياسي ولو من خلال الاعتراض السلبي..
وبالتأكيد فإن السياسة الأميركية لم تكن مكروهة ومرفوضة وملعونة في المنطقة العربية كما هي اليوم، لا سيما في أوساط »أصدقائها« المقربين والذين طالما روّجوا لها وتبنوها وسفَّهوا من ينتقدها طوال العقود الثلاثة الماضية.
بالمقابل فقد حقق رئيس حكومة التطرف الإسرائيلي نجاحا باهرا في توكيد صورة إسرائيل »المحارب الأبدي«، الرافض السلام أي سلام، ومع أي طرف عربي، يستوي في ذلك الفلسطيني والسوري واللبناني، ناهيك بالمصري والأردني الذي سلَّم بشروطه كلها ولم يسلَم من أذاه وفي قلب عمّان.
سقط إذن، »الاحتواء المزدوج« الأميركي الإسرائيلي للإرادة العربية، سواء في الشارع أو في مقرات الحكم.
وهكذا انتبه العرب الى أن »شعبهم« في العراق يموت بالتجويع والإذلال اليومي داخل سور الحصار الذي ساهموا في إعلائه بذريعة تأديب صدام حسين،
وأخذتهم عقدة الذنب ليس فقط إلى رفض الضربة العسكرية الأميركية الجديدة، بل كذلك إلى المبادرة بإرسال مساعدات رمزية من الغذاء والدواء، وإلى رفع الصوت بطلب رفع الحصار عن العراق.. خصوصا وقد انتبهوا كم أن تغييبه قد أذاهم، وكم أن تركه نهباً لمشاريع التقسيم والتفتيت والحرب الأهلية يمكن أن تكون له آثار تدميرية على مستقبلهم في مختلف أقطارهم وكياناتهم، وبعضها مصطنع ومعظمها هشّ بنته قرارات أجنبية وقد تذهب به قرارات أجنبية جديدة نتيجة لتبدل المصالح أو اختلافها.
* * *
سقط »الاحتواء المزدوج« الأميركي الإسرائيلي للعرب؟
قد تبدو هذه مبالغة، لكن المؤكد أن لا شيء يستمر هادئا على الجبهة العربية، كما كان قبل التلويح بالحرب الأميركية الجديدة، أما الحرب الإسرائيلية فهي مستمرة لم تتوقف يوما ولا يبدو أنها ستتوقف في المدى المنظور.
هل تكون للعرب القدرة على التقدم خطوة في اتجاه توحيد موقفهم؟
إن ما تحقق من تضامن، حتى الساعة، أضعف من أن يفتح الباب لقمّة عربية، وأكثر هشاشة من أن يحيي »العملية السلمية« وهي رميم،
بل انه أعجز من أن يفيد من قرار كبير كالذي اتخذته محكمة العدل الدولية في وضع يدها على مسألة لوكربي، مما يفتح الباب لإسقاط القرار الظالم بفرض العقوبات والحصار الجوي على ليبيا.
لا بد من مبادرة تجمع نقاط الضوء وتحوّلها إلى عمل، إلى قرار، الى سياسة.
ولتكن البداية لقاءً ثلاثياً يضم مصر والسعودية وسوريا، ثم يتوسع، موسعاً أرض اللقاء لموقف مشترك..
إنها لحظة مناسبة لتجميع الجهد قبل أن تضيّعه المناورات الأميركية والإسرائيلية، التي سوف تتكاثف وتتركز على إعادة بعثرة الصف العربي.
والناس لم يخلوا الشارع تماما بعد،
لقد استشعروا في أنفسهم بعض القوة، وهم يراقبون ويتابعون وينتظرون خطوة أولى.
وحذار أن تعتمد سياسة »احتواء مزدوج« بديلة، تتعاون فيها الأنظمة العربية مع الأميركيين والإسرائيليين على »التململ الشعبي«، مكررة مأساة طلب الحماية من الذئاب المتوحشة خوفاً من جمهورها الذي تجاوز كل الإسارات ووقف يساندها، وما يزال.
لقد عاد العرب إلى المسرح السياسي، فليثبتوا أهليتهم بأن يبقوا فوقه كلاعبين، بدل أن يعودوا مرة أخرى، مجرد أدوات!