لا يمكن فهم التصريحات التي أدلى بها الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية، أمس، إلا كإعلان حرب على اللبنانيين ومعهم سوريا وإيران بوصفهم قتلة الجنود الإسرائيليين!
إن الموقف الأميركي أعنف سياسيù من الموقف الإسرائيلي ذاته، وهو يتجاوز التعاطف وتبرير الاحتلال إلى التحريض المباشر ضد »سكان لبنان« بمجموعهم ودمغهم بغير تمييز بتهمة »الارهاب« وبالتالي الحكم عليهم تاركù لإسرائيل تنفيذ الحكم حسب توقيتها الخاص.
فالادارة الأميركية ليست في »موقف يمكنها من الضغط على الحكومة الإسرائيلية«،
ثم أن »حكومة إسرائيل تدافع عن جنودها في جنوب لبنان ضد الإرهابيين«،
و»حزب ا”« يجب أن »يُنبذ تمامù فلا يدافع عنه أحد«، بينما تطالب واشنطن »المجتمع الدولي بأن يشارك في الحرب« ضد هذا التنظيم المقاوم الذي إنما يعمل لتحرير أرضه من محتليها الإسرائيليين ولا يهاجم مثلاً ثكنة في حيفا أو عسقلان أو حتى بئر السبع!
الأخطر هو الاستنتاج السياسي الذي تخلص إليه الادارة الأميركية والذي يتضمن إنذارù صريحù للبنانيين بأن العنف (الإسرائيلي) سيستمر حتى تنضم الحكومة اللبنانية إلى قافلة الموقعين:
»لن يتوقف العنف حتى يصبح الوضع في جنوب لبنان مساعدù لعلاقة أكثر استقلالاً (؟) وسلامù بين إسرائيل ولبنان«.
لا التباس ولا مواربة قد تفرضها الدبلوماسية أو اللياقة أو احترام البديهيات التي تفرض التمييز بين جيش الاحتلال وبين »المقاومة«، وبين محاباة الحليف الإسرائيلي والاعتراف بالحد الأدنى من حقوق السيادة للدولة اللبنانية الصديقة،
وبينما يبادر الرئيس بيل كلينتون إلى فتح باب الحوار، ولو مواربة، مع مواطنيه السود الذين ما زالوا يستشعرون نوعù من التمييز العنصري يحرمهم من بعض حقوقهم الطبيعية، فإن إدارته تنكر على اللبنانيين حقهم في أن يكونوا مواطنين في دولتهم وأن يحاولوا إزاحة جنود الاحتلال الإسرائيلي عن أرضهم وأن يستعيدوا أبسط حقوقهم في بلادهم، وفي المشاركة في قرارها »الرسمي« بالتفاوض من »أجل السلام« مع الاسرائيلي وتحت الرعاية الأميركية وبناء على تعهداتها وضماناتها المكتوبة.
* * *
المفاوضات إسرائيلية الشروط، أما الرفض فعقابه حرب أميركية؟!
أي ان الذين لم يوقعوا بعد محاصرون بخيار محدَّد: إلغاء أنفسهم وحقوقهم في أرضهم وأي دور لهم في صياغة مستقبلها!
ولقد كان يمكن فهم رد الفعل الأميركي العنيف هذا لو أن مقاتلاً من »حزب ا”« هاجم في تل أبيب أو في القدس الشريف بعض النسوة والأطفال والمصلين اليهود… العزل!
أما أن يمنع على ابن مرجعيون أو الخيام أو بلاط أو دبين أو إبل السقي أو دير ميماس أو حاصبيا أو الناقورة أن يرفض وجود جيش الاحتلال الإسرائيلي، فهذه سابقة جديدة تسجلها السياسة الأميركية الرافعة راية حقوق الإنسان والديموقراطية والتعددية السياسية الخ!
* * *
لا قصور ملكية في جبل عامل ولا عائلات حاكمة بوهج النسب الشريف ولا دعوات لعشاءات حميمة يعود منها إسحق رابين راضيù مرضيù ومطمئنù إلى مستقبل إسرائيل في قيادة »الشرق الأوسط الجديد«.
وحدها جثث جنوده المقتولين فوق التراب الوطني اللبناني، وبأيدي أهل هذه الأرض التي ما تزال ترفض احتلاله، تستدعيه فيهرول مرتبكù ليستكشف كيف يستطيع أولئك الفتية البسطاء والملتحون والمدججون بالإيمان اختراق أسطورة الجيش الذي لا يهزم بحقيقة مشعة كما دم الشهادة.
ومع رابين تأتي »الدولة الإسرائيلية« بأركانها المدنيين والعسكريين، فيستنطقون التراب والحجر والشجر وضوء الشمس، ويؤدبون »رجلهم« المعتمد أنطوان لحد، ويعدلون في الخطط والتكتيكات المعتمدة، ويطلقون سيلاً جديدù من التهديدات ضد الجميع، »حزب ا”« واللبنانيين عمومù، وسوريا وإيران وكل مَن لا يعلن الحرب عليهم مجتمعين ومنفردين!
يكاد إسحق رابين يداوم في ثكنة مرجعيون المحتلة، وتكاد حكومته وقياداته العسكرية تتخذ لها مقرات ثابتة في بعض أنحاء الشريط المحتل…
لكن النتيجة الأولية جاءت مخيبة للآمال، إذ بعد »أول يوم دوام« تضاعف عدد القتلى من جنود الاحتلال الإسرائيلي، وهي شهادة سيئة الدلالات بالنسبة لمحطِّم عظام الأطفال الفلسطينيين وبطل حروب التوسع الإسرائيلية.
ربما لذلك هبّت الادارة الأميركية لتدخل الحرب، مباشرة، ضد »حزب ا”« واللبنانيين جميعù وضد سوريا أيضù وإيران بطبيعة الحال.
ولعل واشنطن، وعلى لسان الناطق باسم خارجيتها، قد اندفعت في الحرب بأكثر مما تريد حكومة رابين التي ما تزال تتخبط في أزماتها السياسية المتلاحقة، والتي لم تنفعها التواقيع المجانية العربية في الاطمئنان إلى نتائج انتخاباتها بعد عام من اليوم،
وغريب أن تسحب واشنطن »اعترافها« ب»حزب ا”«، متناسية أن إدارتها إياها كانت صاحبة المبادرة في إنجاز اتفاق الكاتيوشا الشهير، قبل عامين ونيف (أواخر تموز 1993).
لقد تصرفت الادارة الأميركية على امتداد العامين الفائتين وكأنها »راعية« ذلك الاتفاق، وبرغم عدم اعترافها »الرسمي« ب»حزب ا”«، فلقد ظلت تتعامل معه، ولو عبر دمشق، وكأنه »طرف« في »حرب المفاوضات« وبالتالي في »عملية السلام«، التي تنكر عليه الآن أية صلة بها!
إن أسباب الارتباك الإسرائيلي انتخابية، تمامù كما هي أسباب الاندفاع الأميركي الذي يكاد يطالب بالثأر لجنود الاحتلال الاسرائيلي بإهدار المزيد من دماء اللبنانيين.
وبرغم أن العوامل الانتخابية قد تعمي المرشحين وتفقدهم سلامة الاتجاه، إلا أن مثل هذا التصرف الأميركي الأخرق يسقط الهالة من فوق »الديموقراطية الغربية« التي تقود واشنطن معسكرها الآن نحو غد أفضل »للإنسان« في كل مكان!
فالقتلة كالمحرضين على القتل لم يكونوا أبدù ولن يكونوا رسلاً للإنسانية، أو دعاة ناجحين لتقدم الحضارة، فكيف بالديموقراطية وحقوق الإنسان؟!
على أن المؤكد أن هذه الحرب الجديدة ستجذر »حزب ا”« أكثر فأكثر في لبنان، وستجعل المقاومة أعظم قوة وأعظم شعبية، وستزيد من وهجها ومن امتداد نارها المقدسة باتساع الأرض العربية.