طلال سلمان

عدت إليها.. عدت إلى الدنيا

تكاتفوا ومعهم خطة والهدف غير المعلن “اسلبوا إحساسه بالوجود” وهجموا.  اعذروني إن نسيت تفاصيل حملتهم فما أذكره الآن ليس بحجم ما خسرت بالفعل أو فقدت. أول وأهم ما أذكر هو أنهم زينوا لي غيبوبة وحملوني إليها، وأنني استجبت في البداية. حكى كل منهم قصة صغيرة ولكن مثيرة. ما إن انتهى أحدهم أو إحداهن من سرد قصته أو قصتها إلا وبدأ آخر أو أخرى. لم أدرك وقتها، فالبراءة وحس النية كانتا من خصالي، أنهم كانوا يستدرجونني إلى غيبوبة تماما كما حاول معي قبلهم أطباء تخدير عديدون.  يبدأون هجومهم بحكايات ظريفة أو مثيرة للانتباه قبل أن يغرسوا الإبرة في عرق من عروقي وينساب السائل لذيذا وباردا. لا يتوقفون عن سرد  حكاياتهم حتى تتوقف ردود فعلي فأستجيب بالسكون وأذهب معهم على الطريق المؤدي إلى الغيبوبة. أبدو لمن يراني سعيدا وراضيا.

***

أشهد لهم بالبراعة مع أنهم لم يكونوا ببراعة أطباء التخدير، فالرحلة إلى الغيبوبة التي كانت تستغرق ثوان على فراش طبيب التخدير احتاجت إلى أيام بل شهور في صحبة “قراصنة الوجود”، هؤلاء الذين قرروا توقيف وجودي ردحا من الوقت ليخلو لهم المكان والزمان. أظن أنهم هم أنفسهم  كانوا في شك عظيم حول معنى وجودنا جميعا، هم ونحن. سرعان ما اكتشفوا ضعفهم فانشغلوا بالبحث عن مخارج من فضيحة الفشل. لم يجدوا أسهل ولا أوفر من الاستمرار في حرمان الناس من الوجود لبعض الوقت مع كثير من الأمل في أنهم عندما يعودون من رحلة الشك والجهل ويعود الناس عن غيبوبتهم سيعود كل شيء وكل كائن إلى وضع ما قبل الغيبوبة.

***

شعور مقيت. غير صحيح الاعتقاد بأنه في الغيبوبة يغيب الإنسان تماما عن العالم. لن أقدم حججا علمية أو روحية أدعم بها جرأتي التي سمحت بعرض هذا الإعلان. أسوق الحجج من تجارب شخصية، تجارب بعض الأهل والجيران والأصدقاء مع الغيبوبة. لا أعممها ولا أستخلص منها نظرية عامة. أذكر مثلا هذا الانسياق المتدرج نحو التفلت من وشائج وروابط. أنت تبتعد عن أقرب أهلك خطوة بعد خطوة. أنت وهم في غيبوبة أو على وشك الدخول فيها. الزوجان في علاقتهما الواحد بالآخر وبخاصة بعد أن تلازما   وقتا أطول من المعتاد في مكان محدد، يكتشفان أن سحبهما كليهما من  الوجود أو سحبه من كل منهما على حدة أضاف شقاء أو على الأقل لم يضف سعادة، سعادة كانت موجودة فقط في خيال الناس أو أحلامهم.  الوجود بالتلاصق مصدر متاعب وبخاصة إن تمدد في الزمن وفرضه قانون أو صار عادة وتقليدا. أسمعها الآن تتردد وبكثرة منذ بدأت الغيبوبة تنحسر ويكتشف الناس ما حل بهم وهم غائبون لا يعلمون.

***

لتأكيد تمردي على الغيبوبة وحراسها تعللت بحجج وأعذار حتى خرجت من القفص الذهبي الذي قضيت فيه ما يزيد عن مائة يوم، اخترت أن يكون الخروج ساعة غروب فالناس عند الغروب غيرهم عن الناس في أي ساعة أخرى من ساعات اليوم. عرفت كثيرين من أهل الغروب في مواقع عديدة بدول شتى وثقافات متباينة فكانوا تواقين للاعتدال. عرفتهم دعاة تأمل وتذكر، رغبتهم جارفة في المصارحة والتسامح وكيف لا وهم أول من يغفر لقرص الشمس تلونه بألف لون قبل أن يغوص لليلة كاملة في أحضان يم عميق. أن ترى الغروب وأنت مع الناس ليس كما تراه منفردا. رأيته منفردا مائة مرة وفي كل مرة كان مختلفا، ولكنه كان شيئا آخر تماما أول أمس، يوم كنا معا وسط الناس. يومها، يوم كنا مع الناس، لم يصل إلى شغاف قلبي.

أذكر حديث عاشقة غروب كانت، قبل أن تتعرض هي نفسها لقهر الغيبوبة  والحرمان من متع عشق الغروب، تشيد علنا بجفنيها اللذين كثيرا ما رفضا أن يرتاحا ساعة الغروب. كانا لا يطبقان إلا وقد استأذنت الشمس في الانصراف وهي ملتهبة باحمرار الخجل والليل زاحف بثغر هو الآخر ملتهب  ولكن اشتياقا ولوعة. بالفعل اتصلت بصديقتي من موقعي. خطر على بالي أن تكون ما تزال في غيبوبة فرضت عليها فأساعدها في التمرد وكسر قيودها. ردت على ندائي من موقع كلانا يعرفه على شاطئ من شواطئ شبابنا الغنية بالحب وحكاياته. كانت هناك، كما قالت، طليقة وسعيدة ومستمتعة بكل لحظة منذ تمردت قبل أيام قليلة. قالت أيضا بالحرف،  أخاف أن أعود. أخاف إن عدت يعودون. سألتها وكأني لا أعرف، من هم؟، قالت، طيور الظلام. أسرعت من جانبي فصححت التعبير، تقصدين، خفافيش الظلام. قالت، يا عزيزي نتحدث أنت وأنا عن شيء واحد، فطيور النهار ما أن يهبط عليها الليل إلا وتتحول إلى خفافيش. أنت لن تراها بعينك المجردة وأنا أراها بعيني المجربة. صدقني هذه المرة كما جربتني فصدقتني في مرات سابقة، بعض الطيور تتحول إلى خفافيش لحظة سقوط قرص الشمس وانطفاء آخر نور”.

***

سقط القيد. عدنا إلى الوجود. يا الله ما أحلى العودة. أسمع صوتها يناديني. “تأخرت عودتك حتى تيبست أحضاني من طول انتظار. أنا الدنيا، بعودتك عدت أستحق اسمي”.

Exit mobile version