لعلها المهمة الوحيدة التي لم ينجح غازي كنعان في أدائها، مع أنها المهمة التي كان مستعداً أن يبذل نصف عمره من أجل النجاح فيها.
أيطلب “أبو غازي” ولا يستجيب بكره والأثير من أبنائه والأقرب إلى نفسه؟!
وحاول غازي كنعان بكل الجهد، بكل الإرادة، بكل القدرة، لكنه في النهاية صدع لإرادة الله ولقدرة الذي لا راد له ولا اعتراض عليه.
كان آخر ما سمعه منه: “ساعدني يا غازي”، وربما لأنه عجز انفجر حزنه مدوياً وتفاقم كمده، وعندما دخل لكي يودعه الوداع الأخير تفجرت عاطفته المكبوتة وقهره المختزن نشجياً متصلاً، وتهاوت الرتبة وأشياء الدنيا، وعاد غازي كنعان طفلاً يبكي أعز الناس.
إذن فقد وقع الفراق، وسقطت “السنديانة العتيقة” التي كانت توحى وكأنها أقوى من عاديات الزمان. رحلت نفس “أبو غازي” إلى جوار ربه راضية مرضية.
قلة من الناس يعرفون عن عواطف غازي كنعان الشخصية عموماً، وعن علاقته الحميمة جداً بوالده الراحل، محمد كنعان، بشكل خاص. فغازي كنعان العسكري و”السياسي” الذي تمرس بالصعاب وعايش الموت وواجهه مرات ومرات وفي العديد من المواقع، يتحكم بعواطفه الشخصية فلا يظهرها إلا أمام القريبين إلى نفسه.
كان أكثر ما يحلو “لابي يعرب” في ساعات صفائه ومع الخلص من أصدقائه أن يتحدث عن أبيه، عن محمد كنعان. وكان “أبو غازي” في نقطة وسط بين القدوة وبين المثل الأعلى. وكان مزيجاً من الأب العطوف والرجل الصلب والصديق الكبير والناصح المعين وصاحب البسمة الصافية صفاء عينيه والكافية لمسح تعب الدنيا.
ولقد توالت المصائب الشخصية على “السنديانة”، لكن محمد كنعان القوي بإيمانه والقوي بإرادته لم يضعف وكان يزداد إيمانه وصبره،
مرة واحدة، وعندما فقد نجله الثاني، فيصل، في الشتاء الماضي، ضعف في لحظة فأخذ يبكي بحرقة، فإذا بغازي كنعان يناشده بحرارة: “لا تبك أمامي، رجاء، فلا يهمني غيرك، وطالما أنت بخير فكلنا بخير”.
غداً يمضي “محمد كنعان” (74 سنة) في رحلته لاأخيرة، فيتحرك موكبه صباحاً من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وقد نقل إليه على عجل مساء السبت، فلم ينفع الطب في منع القدر، قاصداً مسقط رأسه “بحمره” في منطقة اللاذقية، وسيرافق حشد من اللبنانيين رسميين وغير رسميين الذين عرفوا “أبا غازي” من خلال نجله الذي يحفظ له لبنان صادق الود والوفاء، موكب الفقيد إلى مثواه الأخير.
هي إرادة الله . والموت حق. وسبحان الحي الباقي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير. والعوض بسلامتك يا “أبا يعرب”.